اشكالية التراث بين الاصالة والتجديد

كتب قسم المتابعة:

بين حين وحين تتجدد الدعوات لإحياء التراث العربي بشطريه الديني والعلماني وتنقيته من الشوائب التي لحقت به وعلى أساس من العقل والاعتماد على موقف حيادي فعال قادر على استقراء الماضي بصورة موضوعية واستجلاء الحقائق التاريخية منه.

فالتراث العربي الغني بتنوع وكمَّ مواده هو اليوم من أبرز ما حصلت عليه الحضارة من خلال بدايات تقدمها ومروراً بعهود كثيرة حتى غدى اليوم الاعتراف بخطوات العلم المتخذة بهذا الشأن هو من قبيل إثبات الرأي العادل الذي لا يغمض حق لمبدع ولا يتجاوز جهد أفاد الإنسانية فمثلاً على صعيد تثبيت حقائق السيرة لأشخاص عديدين كان لهم دور مهم في بناء أو هدم التاريخ لم يتطرق للعديد منهم وعن تفاصيل وحقائق ذلك الدور. إذ لعبت الأقلام اللاعارفة أو المتجاهلة أو الخائفة أو الحاقدة ما عكس بعض الأمور وقدّمها في مؤلفات مقلوبة (رأساً على عقب) فهناك شخصيات عظيمة قل إن أجاد الزمان بأمثالهم قد تمت الإساءة لتاريخهم الأبيض الناصع وعلى العكس من هذه الصورة عرفت بعض الأقلام المأجورة شخصيات تافهة وسخيفة ومجرمة أحياناً وكأنها شخصيات تتقارب من منزلة الملائكة الأخيار على الرغم من معرفة الرأي العام بشرور هؤلاء الأشخاص الذي أقل ما يمكن تقييمهم عليه بصفة التوحش.

لذا فإن من أولويات تنقية التراث باعتباره القضية الكبرى التي لا ينبغي تأجيلها إلى آجال غير معلومة لأن في ذلك تركيز للبدائل المتداولة التي تمتاز بسلبيات شديدة ولكن مع هذا فإن (التكريم) جار لتلك البدائل السلبية التي تتنافى أصلاً مع حتى الذاكرة المدونة في بعض المخطوطات القديمة أو الذاكرة الشفهية المتناقلة جيل عن جيل.

تناولت بعض البحوث قضية التراث وقدمت حتى الآن مقترحات لإحيائه أو إحياء جوانب محددة منه فيما يخص ما احتواه التاريخ أو أبدته الفلسفات وتم إجراء ندوات ولقاءات عديدة بين المتخصصين والمثقفين من أجل الوصول إلى أفضل الصيغ الممكن اعتمادها للتقييم وأحد أهم هذه المقترحات يدعو لتوظيف مسألة التواصل الخلاق بين ما كان في الماضي وما هو جار في الحاضر وما يمكن أن يستفاد منه بالمستقبل باعتبار أن مسيرة التراث واحدة أحدها يكمل الأخرى.

إن محاولات تغييب البال عن بعض الشخصيات التاريخية والدينية والاجتماعية والعالمة التي لها أكبر الأثر فيما نحن عليه من معارف ومنجزات لا ينبغي أن تتضارب الآراء المتناقضة حولها لمجرد إبداء نقاط لا يقبلها العقل كما يرفضها أي ضمير حي. فمسالة التراث وإن بدت هويته محلية لكنها مسألة تخدم البشرية جمعاء في نهاية المطاف فمثلاً يلاحظ بهذا الزمن رغم اختلاف المواقف والاصطفافات العديدة فيه إلا أن كل المجتمعات تستفاد اليوم بصورة شبه متوازية من المخترعات التكنولوجية والأجهزة العلمية من أجل خدمة أفضل للإنسان والمجتمع والعالم بات اليوم في أكبر إنجاز لم يصل إليه خلال كل التاريخ الماضي أن أصبح (الحوار) المتبادل أو المتناقل عبر الأثير الفضائي تحت أيادي الجموع البشرية ودون أي تفريق بين أناس أو طبقة عن غيرهم.

ولعل بالشروق الفكري والثقافي العامين اليوم خير دليل على أن كل ذلك ليس وليد اللحظة الراهنة بل أتى من التراث الضخم المسجل لصالح حضارة الإنسان على الأرض.. ففي النظرة البناءة للأمور يتيسر التعرف على ليس على مدرسة الواعين بل وعلى الوعي كـ(مبدأ) لا يمكن أن يتحقق دونه أي إنجاز ذو فعالية إيجابية.

والكلام عن التراث بقدر ما يتسع الحديث عنه لمناقشة كل مسائله فإن ما يخشى من كل ذلك أن (القبضة المتعصبة) التي تصر على عملية الإبداء دون نضج أو أساس من العافية المعنوية العالية لأي طرح سيحمل إشكالية معه وهذه الصورة المبسطة لما يمكن تخيله لفصول الماضي أو الحاضر استشراقاً نحو المستقبل لا يمكن أن يخلق منه بيئة متفهمة لما يجب أن تكون عليه حالة الاستمتاع المفيد من التراث بجانبيه (الشخوص والوقائع).

من منغصات الاهتمام بالتراث ونتاجاته الماضية إذ تم تصديق كل ما دوّنه الآخرون لكن التناقض حول شخصية معينة وتاريخ معين يدع الباحث الأكاديمي والباحث عن الحقيقة بآن واحد أمام مفترق قضية الساعة الآن ذات الصلة بتنقية التراث وإصلاح بعض ما ورد في صفحاته وفقاً للأصول التي يقرها العقل ويدعمه التحليل الحيادي. فمثلاً ليس كل من حكم بلاد ما وقالت عنه أوراق التاريخ بأنه (حاكم عادل) فإن ذلك التحليل صحيح! والعكس هنا صحيح أيضاً فليس كل حاكم سيء كما تردده بعض أخبار الماضي كان سيئاً فعلاً بتلك الدرجة الشنيعة وهنا تأتي رسالة الباحث العلمي الذي لا تتحكم فيه الأهواء ولا الرغبات اللحظية السريعة غير المدروسة. فالتراث له أصوله كما هو الحال مع أي جانب آخر من جوانب النتاج الإنساني وأن الابتعاد عن مدارج هذه الأصول لا يؤدي إلا إلى الوقوع في إشكالية النظرة المأساوية للأمور التي يقال عنها بكونها نظرة (أحادية الجانب) أي لنظرة ذات الاجتهاد الناقص المحلل لظاهرة ما (شخصاً أو حدثاً).

ولأن المعيار الأول لتنقية التراث معرفة عما لحقه من شوائب وبالذات الأديان السماوية وفي مقدمتها على درجة من الخصوصية الآراء الإسلامية المعاصرة بما حدث في العديد من العصور الإسلامية السالفة فإن ما لا ينبغي نسيانه هو ضرورة التأسيس للجان مختصة يتصف أعضاؤها بروح العلم والحيادية وعدم التعصب لغير الحقيقة فبذاك سيمكن تنشيط الجهود واكتساب المعنى الحقيقي مما أراده الماضون بشرف إلى الحياة الثانية وإبراز ما يستحقه الآخرون ودون أي وجل من تسمية الأشياء بأسمائها والأحداث بوقائعها.

شبكة النبأ المعلوماتية -الاثنين 2/كانون الثاني/2006 -  1/ذي الحجة/1426