الديمقراطية بين مفهومين

كتب قسم المتابعة: كبداية يمكن وضع علامة تعجب صارخة على مقولة المستشار السابق للإمبراطورية البريطانية (ونستون تشرشل) ونصها: (... الإنسانية لم تعثر بعد على نظام أقل رداءة من الديمقراطية).

يكاد أن يصبح شعار (الديمقراطية) شعاراً مشتركاً لكل الأنظمة السياسية والأيديولوجيات السياسية أيضاً ولعل من سخرية القدر أن نجد حكومات تُرهب مجتمعاتها ولكنها بنفس الوقت تتشدق بكونها حكومات ديمقراطية حتى اختلط (الحابل مع النابل) ولم يعد أحد يعرف أين تكمن الديمقراطية الحقيقية ولدى أي حكومة تُطبق إذ يلاحظ أن المزايدة على شعار الديمقراطية يتخذ أشكالاً مختلفة فأكثر جهات المعارضة في العديد من البلدان تطالب حكوماتها المعنية بتحقيق الديمقراطية وتقابلها الحكومات ذات القصد بأن الديمقراطية متحققة في البلاد وبكل سهولة تعترف بكلمة (لكن) على أن أخطاءً قليلة تقع فعلاً على أراضيها خلافاً لمبدأ الديمقراطية مع أن مثل هذا الاعتراف بالأخطاء القليلة الواقعة لا يغير شيئاً من المعادلة السياسية السائدة في البلد.

فالنظام الرأسمالي يدعي أنه مطبق للديمقراطية والنظام الاشتراكي في عز صعوده كان يدعي كونه ملتزما بالديمقراطية وتأتي بعض الأنظمة القائمة الآن على دفة الحكم لتدعي هي الأخرى بكونها توفر الديمقراطية لمجتمعاتها رغم أن الواقع والوقائع لا يشيران لشيء من هذا القبيل.

ولتقريب فكرة مجافاة الديمقراطية من قبل حكومات تدعيها الاستشهاد بما حدث من كلام ناري في عهد تشرشل رئيس بريطانيا الأسبق حين قال أحد نواب المعارضة في جلسة لمجلس العموم البريطاني ساخراً من نجاح حزب المحافظين في الانتخابات آنذاك، وحسبما نشرته مجلة (الجيل) بأحد أعدادها: (لقد كلتم الوعود الخلابة جزافاً للناخبين فخدعتموهم) فما كان من تشرشل إلا ورده بكلام نفى به كل الدعاية التي تسمي بريطانيا بـ(بلد ديمقراطي) إذ قال بالنص: (قد يكون في كلامك أيها النائب المحترم بعض الصحة ولكن الإنسانية لم تعثر بعد على نظام أقل رداءة من الديمقراطية)!.

والديمقراطية التي يعني مصطلحها (حرية الشعب) وإن لم تبدو واحدة في المفهوم فإن ما يساعد على تقطيب معناها إلى ضرورة ربط واقعها بواقع كل دولة ومجتمع وهذا ما يؤكد حتماً أن أكثر مفهوم قد أصبح في جعبة المنادين بالديمقراطية وبقي حتى الاجتهاد حول ماهية الديمقراطية يدور في حلقة مفرغة حتى بين مدعيها إذ من المأسوف على ريادة الدول أن أحداهالم يبق متمسكاً بـ(الديمقراطية) كمبدأ سياسي ثابت مما جعل بعض المنجزات المتحققة جراء بعض الحوارات ليست أكثر من محاولة على طريق الوصول إلى مرحلة الديمقراطية المجهولة المعالم بسبب اختلاف نظرة المؤدلجين عنها.

فمن الآراء الموروثة عن تقييم الديمقراطية الغربية في المعسكر الاشتراكي السابق أن الديمقراطية في الغرب الرأسمالي ليست أكثر من صورة دعاية فاشلة، أي أن التبجح الغربي بتسيد الديمقراطية في البلدان الغربية لا يستند إلى أي أساس كامل، ويستشهد أصحاب هذا الرأي بأن الحوار الحقيقي بين الجهات السياسية داخل كل كيان أو مرافق دولة في الغرب معدوم أو يمارس لغير صالح الديمقراطية من ناحية الممارسة.

ولأن (البلد القدوة) في ممارسة الديمقراطية غير موجود فقد كثر الكلام عن الديمقراطية وبما يشبه طنين الذباب بعد أن تنكر لها حتى قادة أحزاب سياسية كانوا ينادون بتحقيق الديمقراطية للمجتمع ولكن ما أن وصلوا سدة الحكم حتى تنكروا لذلك، فقد اختاروا عملياً معاداة الديمقراطية سلوكاً مبقين على الادعاء بالديمقراطية في الكلام والتصريحات الإعلامية.

إن توفير شروط الحوار البناء وإتاحة ظروف التعبير المسؤول لأجل تحقيق الديمقراطية يحتاج إلى مؤسسات حقوقية تكفل ممارسة الديمقراطية وأن أختلف بعض الاجتهادات في كيفية تحقيق ذلك ومن المؤكد أن هناك استعدادا اجتماعيا عاما ليس لممارسة الحياة الديمقراطية المسؤولة بل وتطويرها من أفق إلى أفق.

المجتمعات الآن وكما كانت سابقاً وستكون بالمستقبل ليس أمامها أفضل من اختيار طريق الديمقراطية لأن فيها النواة الممكن أن تبني أي نظام سياسي ناجح إذ سيكون نظام الألفة الاجتماعية لدى كل مجتمع لأن حالة التواصل السياسي المجرد سيكون في أفضل حالاته حيث لا تشنج ولا معاداة سياسية بالعنف وكل شيء يوضع له حل مناسب بالحوار لا بالسلاح.

وحتى يتم الإدراك أن الديمقراطية واحدة من حيث النوع الضامن لممارسة الحرية الاجتماعية المسؤولة وإن اختلفت طرق الوصول إليها قليلاً لكن الجوهر يبقى واحداً ولا بأس هنا من الاستشهاد بمقولة للأديب فكتور هوغو يدافع فيها عن الأفكار ومنها فكرة الديمقراطية: (من الممكن مقاومة اجتياح الجيوش ولكن لا يمكن التصدي لاجتياح الأفكار).

شبكة النبأ المعلوماتية -الثلاثاء 20/كانون الاول/2005 -  17/ذي القعدة/1426