في البدء .. كان التسليم بالاختلاف والرأي الآخر

نضير الخزرجي

     عند الحديث عن مفهوم (التعددية) مجردة عن لواحقها من تعددية سياسية أو عقيدية او ثقافية, فانه يقفز الى سطح المفهوم، مفاهيم أخرى ملازمة للفظ التعددية من قبيل التنوع والاختلاف, وهي مفردات تحمل معان متشابهة لمفهوم التعددية في كل مظاهر الحياة الدنيا.

ولذلك فان الحديث عن الاختلاف والتنوع يقترب كثيرا من الحديث عن التعددية ان لم تكن هذه المفردات هي بعينها مفهوم التعددية أو من مشتقاتها او مترادفاتها، فالنوع كما يقول الحنفي (ت 1205هـ): "كل ضرب من الشيء وكل صنف من كل شيء كالثياب والثمار وغير ذلك حتى الكلأ قاله الليث (بن سعد بن عبد  الرحمن 94-175هـ) وفي بعض النسخ حتى الكلام ... وتنوع الشيء صار أنواعا"(1)، اما العدد فهو: "الكمية المتألفة من الوحدات فيختص بالمتعدد في ذاته وعلى هذا فالواحد ليس بعدد لانه غير متعدد اذ التعدد الكثرة, وقال النحاة الواحد من العدد لانه الاصل المبني منه ويبعد ان يكون اصل الشيء ليس منه ولانه له كمية في نفسه, فاذا قيل كم عندك صحّ ان يقال في الجواب واحد كما يقال ثلاثة وغيرها"(2).          

نلاحظ من خلال التعريفين انه يصح ان يقال لمجموعة معينة انها متعددة أو متنوعة، فالتنوع يرادف التعدد، وكلاهما يرادف الاختلاف، من حيث ان الاختلاف يقتضي التعدد في الشيء او الفكرة، لكون الاختلاف ضد الاتفاق, فاذا اتفق الشيء مع الشيء في كل الخصوصيات لا يقال حينئذ انهما متعددان او متنوعان، فاضافة التفاح الاحمر الى التفاح الاحمر لا يصيّر التفاح متعددا ومتنوعا, فالاضافة لم تغير من الامر شيئا, يقول الحنفي: "واختلف ضد اتفق ومنه الحديث سووا صفوفكم ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم أي اذا تقدم بعضهم على بعض في الصفوف تأثرت قلوبهم ونشأ بينهم اختلاف في الألفة والمودة، وقيل أراد بها تحويلها الى الإدبار وقيل تغير صورتها الى صورة اخرى والاسم منه الخلفة"(3)، أو كما يقول البستاني (1819-1883): "الاختلاف ضد الاتفاق وقال بعضهم الاختلاف يُستعمل في قول بُني على دليل,  والخلاف في ما لا دليل عليه".(4)

اذن نلاحظ في هذه المصطلحات وقوع الترادف في ألفاظها والاتفاق في مرادها على ان علماء اللغة يستخدمون مفردة الترادف في الكلمات من باب التجاوز وإلا فان لكل كلمة معناها الخاص بها وان تشابهت مع رديفتها، فعلى سبيل المثال، فان للأسد الكثير من المترادفات لكن لكل كلمة معنى خاصا بهذا الحيوان ينطلق من وضعيته وحالاته المختلفة عندما يكون غضبا او مرحا او جائعا او شبعا, فعبّاس من مترادفات كلمة الأسد ولكنها تطلق عليه عندما يكون غضبانا, وتطلق عليه كلمة (السبع)، عندما يكون في حالة افتراس لغنيمته.(5)

هذا المعنى يقربنا من مفاهيم التعددية والتنوع والاختلاف والشاكلة التي وردت في قوله تعالى:{قل كل يعمل على شاكلته} (سورة الإسراء: 84) من هنا فان بعضهم ذهب الى ان التعددية في جوهرها التسليم بالاختلاف: "التسليم به واقعا لا يسع عاقلا إنكاره, والتسليم به حقا للمختلفين لا يملك أحد، أو سلطة حرمانه منه، وهي توصف بالموضوع الذي يكون الاختلاف حوله، او الذي ينحصر في نطاقـه، فتكون سياسية أو اقتصادية أو دينية أو عرقية أو لغوية أو غير ذلك"(6)، والمعنى نفسه ذهب إليه الباحث الاسلامي السعودي، الميلاد في البحث عن جوهر التعددية التي أكد فيها انها: "إقرار بالحرية والاختلاف, والتعايش السلمي في إطار الحرية والاختلاف والتنوع من غير ضرر ولا ضرار".(7) على ان التعددية كما تقول الدكتورة البزري: "هي واحدة من المفردات السياسية – الاجتماعية الحداثية بامتياز، تصف حالة من الحالات الفضلى التي تحلم الديمقراطية ببلوغها، والتعددية حديثة أيضا، معنى أنها مصدر للاختلاف, بكافة أوجهه".(8)

   بالطبع فان البزري وهي تتحدث عن التعددية السياسية والحزبية التي وجدت لها تطبيقات حديثة في بعض البلدان العربية والإسلامية قال فيها البعض أنها مستوحاة من الثقافة الغربية، إنما تتحدث عن الاختلاف في جانبه الإيجابي الذي تقتضيه النفسيات والأمزجة والبرامج الحزبية لكل تيار او مدرسة حزبية، وإلا فان الاختلاف الذي فيه تشرذم المجتمع والأمة مرفوض عقلا وشرعا وعرفا, فليس من الاختلاف والتنوع المقبول ان يسير كل انسان باتجاه مخالف للآخر سعيا لإلغائه او محوه من الطريق، نعم قد يصدر المرء في تصرفاته وأقواله عما يوحي بأنها عملية ضدية في مقابل الغير او الآخر، ولكن اذا بقت الأمور في حدود الخلاف المقبول، فان العملية برمتها  تتناغم مع الاختلاف المحمود المفضي الى التكامل والتطور. فالاختلاف والمخالفة كما يقول الدكتور العلواني: "ان ينهج كل شخص طريقا مغايرا للآخر في حاله أو قوله، والخلاف أعم من الضد لأن كل ضدين مختلفان، وليس كل مختلفين ضدين، ولما كان الاختلاف بين الناس في القول قد يفضي الى التنازع استعير ذلك للمنازعة والمجادلة، قال تعالى: {فاختلف الأحزاب من بينهم} (مريم:37), {ولا يزالون مختلفين} (هود:118)، {انكم لفي قول مختلف} (الذاريات:8)، {ان ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} (يونس:93). وعلى هذا يمكن القول بان الخلاف والاختلاف يراد به مطلق المغايرة في القول أو الرأي أو الحالة أو الهيئة أو الموقف"(9).

وحتى لا نقع في الخلط المعرفي بين مشترك مفاهيم الاختلاف والخلاف والتعدد والتنوع، ومفهوم علم الخلاف المتداول لدى أصحاب الفقه والأصول على وجه التحديد, فان: "ما يعرف لدى أهل الاختصاص بـ (علم الخلاف) فهو علم يمكّن من حفظ الأشياء التي استنبطها إمام من الأئمة، وهدم ما خالفها دون الاستناد الى دليل مخصوص، إذ لو استند الى الدليل واستدل به لأصبح مجتهدا وأصوليا، والمفروض في الخلافي ألاّ يكون باحثا عن أحوال أدلة الفقه، بل حسبه ان يكون متمسكا بقول إمامه لوجود مقتضيات الحكم –إجمالا- عند إمامه كما يظن هو، وهذا يكفي عنده لإثبات الحكم، كما يكون قول إمامه حجة لديه لنفي الحكم المخالف لما توصل إليه إمامه كذلك"(10)، وبتعبير آخر هو: "علم يقتدر به على حفظ الأحكام الفرعية المختلف فيها بين الأئمة أو هدمها بتقرير الحجج الشرعية وقوادح الأدلة، والخلافي أما مجيب يحفظ وضعا شرعيا أو سائل يهدم ذلك".(11)

   وحقيقة الأمر ان "التعددية"  كما يصفها الكاتب والمحقق المصري الدكتور محمد عمارة مصطفى عمارة هي عبارة عن: "تنوع، مؤسس على تميز.. وخصوصية .. ولذلك، فهي لا يمكن ان توجد وتتأتى -بل ولا حتى تُتَصَوَّر- إلا في مقابلة –وبالمقارنة- مع الوحدة .. والجامع .. ولذلك لا يمكن إطلاقها على التشرذم والقطيعة التي لا جامع لآحادها، ولا على التمزق الذي انعدمت العلاقة بين وحداته .. وأيضا لا يمكن إطلاق التعددية على الواحدية التي لا أجزاء لها، أو المقهورة أجزاؤها على التخلي عن المميزات .. والخصوصيات، على الأقل عندما يكون الحكم على عالم الفعل لا على عالم الإمكان والقوة, فأفراد العائلة: تعدد في إطار العائلة، وفي مقابلتها .. الذكر والأنثى: تعدد في إطار وحدة النفس الإنسانية .. والشعوب والقبائل: تعدد في جنس الانسان.. فبدون الوحدة الجامعة لا يتصور تنوع وخصوصية، ومن ثم تعددية .. والعكس صحيح"(12).

 وهذا الفهم قائم على واقع وتجربة نعيشها يوميا ونعايشها، فالوحدة الجامعة مركبة من وحدات صغيرة، ولكل وحدة خصوصيتها، فالوحدة مطمح لكنها لا تلغي الخصوصية، ويقترب الباحث السوري الدكتور عضيمة من هذا المعنى الذي اشار اليه عمارة، ولكنه يصيغ فهمه للتعددية والاختلاف بصورة أخرى، فهو يؤكد ان ما جاء في تعريف الدكتور عمارة للتعددية من: "أنها تنوّع, مؤسّس على تميّز.. وخصوصية، هو عينه الذي أقوله, وان أردت له ان يأتي  بصيغة أخرى، فأنا أقول انها: اختلاف في الاجتهاد، واجتهاد في الاختلاف".(13)

 اعتقد ان هذا الفهم للتعددية الذي يقول به عضيمة جدير بالاهتمام، فالاجتهاد لا شك انه يفضي شئنا أم أبينا الى اختلاف في الفهم الخارجي للموضوع ولكن لا ينبغي ان يكون مدعاة للتفرق، والاجتهاد من جانب اخر هو مدعاة لسد الفجوات في مناطق الاختلاف، لانه كلما اجتهد المرء في مسألة ما، امكنه من نيل الصواب من خلال تسليط الاضواء على المسألة ومعاينة مواطن الخلل والاختلاف غير المرغوب فيه.

   ومما لا يختلف عليه اثنان ان (التعددية) في مفهومها العام تقتضي تقبل رأي الغير مهما كانت الثقة في الذات، ويستشهد الاستاذ الجامعي المصري الدكتور عثمان بمقولة اشتهرت عن الامام  الشافعي محمد بن ادريس (767-820م) مفادها: (رأينا صواب محتمل الخطأ, ورأي غيرنا خطأ محتمل الصواب)، ليؤكد أن: "هذه التعددية تتقبل الرأي الآخر كحقيقة بحكم الطبيعة الإنسانية والأحكام الشرعية وتحمي حقه في عرض حجته كما تمارس حقها في الاعتراض عليه".(14) فالتعددية إذن تعني فيما تعني الاعتراف بوجود آخرين وأحزاب أخرى واحترام حقوق الجميع، والتعاون مع الجميع في سبيل تقدم الجميع.(15) ومن المسلّم به ان الاسلام لا يريد التفرق او التحزب -المذموم- وإنما يحث على التنافس نحو الخير {.. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}(سورة المطففين:26)، وأما مسألة الأخوة التي طبقها الاسلام في عهد الرسول محمد (ص) (عام الفيل- 11هـ)، مرتين للتكاتف ضمن مجتمع متعدد الاتجاهات كالمهاجرين والأنصار من جهة والطبقي كالغني والفقير من جهة، والرفيع والوضيع من جهة، والأبيض والأسود والعربي والعجمي مما يدل على ان كل ما من شأنه التفرق والتحزب مذموم مرفوض، فلابد من ان لا تؤدي نتائج التكتلات الى التفرقة والصراع، ولكن اختلافهم في فهم واقع الحياة وأسلوب التطبيق, وحتى مسألة فهم النصوص التي لم ينه الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في حياته عندما اختلفوا في الأمر الذي أوصاهم به بالنسبة إلى صلاة سفرهم الى بني قريضة، فهذا مما يحبذه الاسلام لان فيه سعادتهم، ومن هنا جاء بعض التفسيرات لقوله صلى الله عليه وآله وسلّم: "اختلاف أمتي رحمة"(16).

فالخلاف إنما للوصول الى الأفضل وليس للخلاف ولا للتفرقة والضعف: {وأطيعوا لله ورسوله ولا تنازعو فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا ان الله مع الصابرين}(الأنفال:46)،{واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} (آل عمران:103) حتى لا يكون شيعا تستضعف طائفة أخرى.(17) فطاعة المسلم لرسوله او امامه أو قائده أو مسؤوله، ليست مدعاة لأن يلغي أو يجمد عقله من التفكير والاجتهاد فيما لا نص فيه، فالقائد الناجح هو الذي يضم تحت جناحيه اناسا يفكرون معه لا ان يكون تفكير القائد بديلا عن تفكيرهم، فيكونون حينئذ عبئاً كبيرا عليه، فاذا كانت بطانة القائد بطانة تفكر وتعقل وان اختلفت في الفهم, فان النجاح سيكون من نصيب الناس الذين يقعون تحت حكم قائد تختلف بطانته من اجل اصابة كبد الحقيقة وبلوغ الصواب.

 

الهوامش:

1- محمد مرتضى الحسيني الواسطي الزبيدي الحنفي، تاج العروس من جواهر القاموس ج5 (بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع) ص533.

2- المصدر السابق، ص416.

3- المصدر السابق، ص103.

4- بطرس البستاني, محيط المحيط (بيروت، مكتبة لبنان، 1977م) ص350.

5- للمزيد في باب الترادف، راجع: السيد محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول .. الحلقة1و2 (بيروت، دار التعارف للمطبوعات، 1410هـ/1989م) ص397 وما بعدها.

6- د. محمد سليم العوا، "التعددية السياسية من منظور إسلامي" مجلة منبر الحوار (بيروت، دار الكوثر، السنة 6، العدد 20، 1411هـ/ 1991م) ص129.

7- زكي الميلاد، "التعددية الحزبية في الفكر الإسلامي، التأصيل، الأنماط، التحول" مجلة الكلمة (بيروت، منتدى الكلمة للدراسات والأبحاث، السنة 1، العدد 2، 1414هـ/ 1994م) ص25.

8- د.دلال البزري، "مداخلات وتعقيبات"، نشرة إسلام 21 (لندن، المنبر الدولي للحوار الإسلامي، العدد 24، 1421هـ/2000م) ص14.

9- د. طه جابر فياض العلواني، أدب الاختلاف في الاسلام (قطر، رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية، الطبعة الثانية، 1406هـ) ص23.

10- المصدر السابق، ص24.

11- السيد محمد تقي الحكيم، الأصول العامة للفقه المقارن (بيروت, دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع) ص13.

12- د. محمد عمارة، "التعددية .. الرؤية الإسلامية والتحديات الغربية" فصلية الجامعة الإسلامية (لندن، الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية، السنة 1، العدد 2, 1414هـ/1994م) ص67-68.

13- د. صالح عضيمة، "التعددية بين الرؤية والواقع .. نقد وتصويب" فصلية الجامعة الإسلامية (لندن، الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية، لندن, السنة 2، العدد 7، 1416هـ/ 1995م) ص272.

14-  د.محمد فتحي عثمان، من مقدمة لكتاب: التعددية والحرية في الاسلام للشيخ حسن الصفار (بيروت، دار المنهل، الطبعة الثانية، 1416هـ/ 1996م) ص31.

15- انظر: السيد محمد الشيرازي، "حياتنا قبل نصف قرن" ( بيروت، مركز الرسول الأعظم (ص) للتحقيق والنشر، الطبعة الأولى، 1419هـ/1998م) ص143.

16- عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل "تفسير البيضاوي" ج2، تحقيق: عبد القادر عرفات العشا حسونة (بيروت، دار الفكر، 1416هـ/1996م) ص76.

17-  انظر: د. نسيم الرضوي، "تصورات أولية في مشروعية الأحزاب في الاسلام" مجلة الرأي الآخر (لندن، مركز الثقيف الاسلامي، السنة 4، العدد 47، 1421هـ/2000م) ص17.

الرأي الآخر للدراسات - لندن

 [email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية -الاحد 4/كانون الاول/2005 -  1/ذي القعدة/1426