[newsday.htm] 
 
 
 

 

التأسيس الطائفي للدولة العراقية القديمة

محمد الحيدري

يخطئ من يتصور بان بان معاناة الشعب العراقي تنحصر في الحقبة الصدامية الظلماء أوانها نجمت فقط عن سلوكيات عصابات البعث بعد وصولهم إلى دفة الحكم وبغفلة من الزمن من دون اسس وارضيات مهدت لظهورهم وممارستهم البشعة بحق الاغلبية، والحق أن قراءة بسيطة لتاريخ العراق السياسي المعاصر تشهد بوجود تأسيس طائفي واقصاء الاغلبية والتنكيل بها ومنذ تشكيل اول حكومة عراقية بعد الاحتلال البريطاني القديم … فبعد قيام ثورة العشرين بقيادة المرجعية الشيعية وما تركته احداث الثورة من نتائج شكلت ضغوطا على البريطانيين، اوعز السير (برسي كوكس) المندوب السامي في العراق إلى الشيخ عبد الرحمن الكيلاني (نقيب اشراف بغداد وهومن علماء السنة البارزين انذاك) إلى تشكيل اول وزارة بعد ثورة العشرين..

وقد قدم عبد الرحمن النقيب قائمة من الوزراء إلى المندوب البريطاني في 1920/10/27 تضم 11 وزير بالاضافة إلى اسم النقيب نفسه كرئيس للوزراء، والملاحظ في هذه التشكيلة التي صادق عليها (كوكس) ـ اقصاء وتهميش للاغلبية الشيعية حيث ضمت هذه التشكيلة وزيراً شيعيا واحدا فقط شغل وزارة المعارف والصحة، ولم يرشحه النقيب في اصل التشكيلة بل ساعد رفض عزت الكركوكلي لشغل هذا المنصب واستبداله بوزارة الاشغال على ترشيح بحر العلوم، مع أن قائمة النقيب تضمنت اليهودي (ساسون حسقيل) كوزير للمالية رغم أن اليهود لا يشكلون نسبة ازاء الاغلبية الشيعية.. والسؤال الذي يبرز هنا ألا يعد تشكيل حكومة تتزعمها الاقلية مع اقصاء الاغلبية.. ألا يعد ذلك تناقضا مع ما اسلفناه من أن تأسيس هذه الحكومة جاء نتيجة لضغط من الاغلبية في ثورة العشرين وبالتالي لا بد من منح الشيعة مناصب وزارية تتناسب مع الثقل الجماهيري والسكاني وارضائهم بدلاً عن اقصائهم؟

وكيف وافق المندوب السامي على قائمة النقيب؟

وللاجابة على ذلك لا بد أن نعرف بان البريطانيين لم يتخلوا عن مشروعهم السياسي في العراق ومطامعهم في هذا البلد بمجرد قيام الثورة بل عمدوا إلى تكتيك اخر واسلوب جديد بعد ثورة العشرين فباختيارهم لشخصية مثل عبدالرحمن النقيب (من الاقلية السنية) كرئيس للوزراء وما سيقوم به النقيب من ترشيح وزراء اغلبهم من طائفته، مع تغييب للشيعة يضمن للبريطانيين تحقيق مشروعهم السياسي الرامي إلى ابقاء العراق تحت التبعية البريطانية، حيث أن إعطاء الحكم إلى اقلية يحقق هذا الغرض حيث أن تسييس الاغلبية من قبل الاقلية تحتاج فيه إلى سند خارجي يتمثل بالمحتل أوالمستعمر كونهم ذوي اليد الطولى في وصول اللاقلية واستمرارهم، ومن البديهي لاي اقلية تريد السيطرة على الاغلبية لا بد لها من استخدام البطش والقمع والقوة واليد الصماء وهذا ما يفسر ما عانته الاغلبية على مر عهود الحكومات التي توالت بعد تكوين الدولة العراقية وحتى سقوط الصنم، ومن قراءة وافية للحكومات التي توالت في حكم هذا البلد نلاحظ ظاهرة مشتركة بينها وهي استعانتها بالقوى الكبرى المتمثل بالدول الغربية وكذلك الاقليمية لوجود وحاجتها إليها على الدوام، هذه الظاهرة ظلت صفة ملازمة لسياسات هذه الحكومات وقد دفع العراقيون ثمناً باهضاً لهذا التأسيس والمعادلة المخطوءة (تسلط الاقلية على الاغلبية) ولكي تحافظ الاقلية على ما وصلت اليه من سلطة وتحكم بالاغلبية وفق ما تريد وتهوى لابد ان تستخدم القوة والاستبداد فلا يمكن لحاكم الاقلية ان يفكر في اقامة نظام برلماني وفق الانتخابات العامة الامر الذي يعني وصول ممثل الاغلبية الى دفة الحكم من هنا فان الاستحواذ على السلطة من قبل فئة على حساب اغلب الفئات والاستفراد يتطلب استخدام العنف والقوة والقهر والتنكيل بهم وممارسة الاستعباد واستخدام شتى الوسائل حتى وصلت في ظل النظام البائد الى تقبير الاجيال تلو الاجيال..

ان فلسفة الاستبداد تجيء من هذه النقطة بالذات ولم تقف الامور عند هذا التأسيس الخطير للاستبداد في حكومة النقيب فحسب بل راحت تؤسس الى السلطة القومية والتي تنظر بـ(دونية) وتحقير للقوميات المغايرة وبالتالي هضم حقوقهم في المواطنة والحيلولة دون اشراكهم في السلطة ولقد شجع الانكليز انذاك على نهج سياسة القومية العربية الموالية للسلطة في محاولة لاستخدام التيار القومي ضد الدولة العثمانية التي تعتبر عدوا ومنافسا قويا لها في البلدان العربية..

وقد ظهر اهتمام الانكليز بانشاء توجه نحو القومية العربية ذات الولاء لسياسة البريطانيين في بعض تصريحات ساستهم في العراق مثل (المس بيل) حيث وصفت الشيعة بالاغراب فسارع مزاحم الباججي الى طعن ثور العشرين.

ومن ناحية فان من اهداف هذه المعادلة المخطوءة في خارطة العراق السياسية هي ابقاء العراق في دوامة من المعاناة ومن الاحتقان السياسي والصراع الطائفي.. وبذلك لا يمكنه ـ والحال هذه ـ ان ينمو ويتطور بل يعيش التخلف والتبعية للغرب عموما ولبريطانيا خصوصا.

وبذلك اقام النقيب دولة قومية طائفية تنسجم مع تطلعات واهداف السياسة البريطانية وما رسمه موظفوا ادارة الاحتلال ولكي تضمن توجيه مسار المواجهات والغضب الجماهيري والثورات المتفرقة باتجاه الحكومة المحلية بدلاً من قوات الاحتلال وقد نجح النقيب في تأدية الدور وتطبيق مبدأ الضد النوعي فلم يعد البريطاني يواجه العراقي بل اصبح العراقي (في السلطة) وجهاً لوجه مع العراقيين.

يقول صاحب كتاب (الشيعة والدولة القومية) منذ عهد النقيب اخذت الدولة القومية طابعها النهائي واصبحت ممارساتها واساليبها تقاليد واعرافا مستمدة على عدد من الثوابت.. تشكل ايديولوجية السلطة القومية وركائزها الاساسية هي:

الثابت الأول: التبعية السياسية للمعسكر الغربي ولبريطانيا بشكل خاص وقد التزمت به الحكومات العراقية المتعاقبة التزاماً يدعو

إلى الدهشة.

الثابت الثاني: أن السلطة التشريعية انيطت بالاقلية وحيث أن اتجاهها كان لصالح الارتباط بالستراتيجية الغربية وبالمصالح البريطانية بوجه خاص كان حدوث ردود فعل شعبية امراً مفرغا منه مما فرض على السلطة استخدام نظاما صارم من الاستبداد والقمع المستمر ضد الرأي الاخر.

الثابت الثالث :اعتماد رجال الاقطاع والمالكين العقاريين كقوة اساسية في دعم واسناد النظام.

الثابت الرابع: وهوالثابت القومي فالحكومة ليست للاسلاميين ولا لغيرهم وانما هي حكومة قومية منذ عهد النقيب.

الثابت الخامس: تمذهب الدولة ركن اساسي من اركان السلطة القومية في العرق وهوعلى شذوذه وغرابته (اصبح ثابتا) فالسلطة للعرب وليس للاكراد وللسنة وليس للشيعة.

الثابت السادس: يعتبر الجيش الاساس الذي لا تستغني عنه السلطة السياسية لا للغرض التقليدي لتأسيس الجيوش وهوالدفاع عن البلاد بل لتثبيت واسناد حكم الاقلية وصراعتها الداخلية.

وقد سارت الحكومات التي تولت الحكم في العراق في الحقبة المظلمة السابقة على هذا النهج حتى بعد انهيار الحكم الملكي حيث لم تكد تبعد عن النهج القومي والطائفي في سياستها مما ترك استتباعات خطيرة نجم عنها قمع لايقف عند حدود واعتماد الاقصاء وممارسة الاستبداد بكل صنوفه ضد الاغلبية وليس غريبا أن يكون الشيعة والاكراد هم اكثر ضحايا النظم البائدة وبدعم من الدول العربية لاسباب طائفية بازاء الشيعة وقومية بازاء الاكراد.

mohamad21@maktoob.com

شبكة النبأ المعلوماتية - الأحد 12/ حزيران/2005 - 5/ جمادى الأولى/1426