غزة من زكريا محمود: النكبة
اسم جارح لأهل فلسطين المغتصبة لم يبق لهم
سوى مأساة أرض، وحكايات سوداء عن تشريد الإنسان الفلسطيني، ومشوار جوع
وقلق وخوف. .. والإبقاء على نقاء الذاكرة النارية لتلك الأيام الملتهبة
التي شهدت الخروج الكبير تحت ملاحقة البارود والمجازر والخوف واستبدال
اسم المكان، وصاحب الأرض والذاكرة، بقادم من بلاد الصقيع واصطناع ذاكرة
جديدة له.
النكبة لا تزال، تبحث عن حل لكل الأوجاع التي زرعتها في ذهن ويد
الفلسطيني، فهي بعد ما يزيد عن خمسة عقود (15-5-1948)، لا تزال طرية
الجرح، تبحث عن دواء شاف لقلق جروحها المستمرة، وفيها تتجدد ذكرى طرد
أكثر من ثلاثة أرباع مليون فلسطيني يعيشون اليوم محنة اللجوء... والبعض
منهم تعرض للكثير من النكبات.
هنا في طولكرم، كلما تهب نسمة الريح الغربية تحن الحاجة فاطمة أحمد
للعودة لبلدتها خربة بيت ليد التي هجرت منها قسرا ولازالت تذرف الدموع
عليها بغزارة، لأنها الحضن الحنون وهواء بلدتها كما تقول يشفي العليل،
لكن الحلم لا يتحقق، فهي تستقر حاليا في قرية الراس المقابلة لبلدتها
المدمرة.
وقالت الحاجة فاطمة ودموعها تنهمر: "الحمد لله" أنني تزوجت في الراس
لأبقى مطلة على الساحل وأشم رائحة بلدتي التي خرجت منها وعمري لا
يتجاوز "17 عاما" وأخاف أن أموت من دون أن أتمكن من رؤية بلدي أو
العودة إليها حتى ولو زائرة، فأبي وأمي توفيا قبل أن يعودا إليها أو
يرياها ثانية.
بلدة الحاجة كان يسكنها آنذاك ما يقارب 800 نسمة. وتقع البلدة على
مداخل بلدة نتانيا "أم خالد" وغرب سجن بيت ليد الحالي. وتقدر بـ "11"
ألف دونم، وكانت تصل إلى عيون الماء المحاذية للبحر تتوسطها بئر مياه
ارتوازية تستعمل لري المواشي، وكانت القرية تشتهر بزراعة البطيخ والقمح
والشعير وتربية المواشي.
وتنصت الحاجة فاطمة قليلا تمسح دموعها وتتابع حديثها: "إن البلدة
كانت تحاذيها من الجهة الغربية قطعة أرض مزروعة بالزيتون ويحيط بها
سياج من أشجار الكينيا الكبيرة من جهة وسياج من الصبر من الجهة الأخرى".
وعن النزوح عن القرية قالت: انه نتيجة لأعمال القتل التي مارسها
اليهود ضد سكان القرى الفلسطينية والبطش بهم خرجوا من القرية على أمل
ألا يطول خروجهم أكثر من أسبوع ثم يعودون إليها، ولكن الفترة طالت ولم
يعودوا، ولم يجرؤ أحد على الرجوع إلى البلدة لان اليهود قاموا بقتل شاب
اسمه محمد أبوجمعة عندما عاد إليها، وقد خرجنا ولم نأخذ إلا الشيء
القليل، تركنا كل أثاث البيوت كما هي والتجأ والدي إلى بلدة قلنسوة إذ
يسكن فيها أخوالي. وفي ذلك اليوم هاجم اليهود البلدة وقصفوها بالمدفعية
ما اضطرنا إلى تركها، إذ أصيبت شقيقتي حليمة بشظية في رجلها ومازالت
الإصابة حتى الآن، كما أصيبت والدتي خضرة في جميع أنحاء جسمها واضطر
أبي إلى النزوح إلى قرية فرعون وتشتتت العائلة ما بين فرعون وفرديسيا
التي التجأ إليها أخوالي، واستقر والدي في فرعون وبنى بيتا مازال
موجودا حتى الآن اختار موقعه من الجهة الغربية ليطل على بلدته.
وتختتم الحاجة فاطمة قائلة: "منذ ذلك الوقت لم أدخلها وأتمنى أن
أعود إليها قبل أن أموت، أجلس يوميا غرب القرية وأطل على الساحل
الفلسطيني الذي لا يبعد عنا سوى بضع كيلو مترات، وأنظر إلى أطلال بلدتي
ومازال مفتاح بيتنا وكواشين الطابو بحوزتي حتى هذه اللحظة".
الهجرة مع الرضيع
في رام الله مأساة أخرى... فهذه "أم محفوظ" تذكر انها وقت النكبة
ضمت طفلها مهاجر - الذي لم يمض على ولادته سوى بضع ساعات وقت بدء
النكبة - إلى صدرها، رافضة أوامر حماها بترك الطفل في البيت، في قريتهم
بيت نبالا التي تعرضت لقصف القوات البريطانية مدعومة بقوات الهاجاناة
الإسرائيلية في ،1948 أمرها حماها بذلك، وهي تلملم احتياجاتها استعدادا
لمغادرة القرية، تحت حجة أن الرضيع لن يحتمل، وتغلبت مشاعر الأمومة على
كل المشقات، فسارت بوليدها مسافة 18 كيلومترا متواصلة ترتاح فيها
لدقائق ثم تتابع سيرها وهي تحمله في المهد على رأسها وتجر أخاه حتى
يأخذ منه التعب، فتحمله على اليد الثانية.
وهي تقوم بذلك، كان زوجها يجر الخيل التي تحمل جرة الزيت وكيس القمح
و"بقجة" الملابس التي تضم غيارا واحدا فقط لكل منهم، وحماها وحماتها
يسيران وإلى جانبهما شقيق زوجها وأبناؤه، وعند النوم تحتضن "أم محفوظ"
مهد طفلها الذي غطته بـ "ماية" حماها وتضع طفلها الآخر في حضنها وقد
افترشت الأرض والتحفت السماء، مبقية طفلها الصغير في مهده ثلاثة أيام
متواصلة، آملة أن تخرجه من المهد حين تعود إلى منزلها، لتمنحه الفرصة
للتحرر من القماط والاستحمام، واضطرت أم محفوظ لخياطة جزء من الخيام
التي قدمتها لهم وكالة الغوث، وكانت الخيمة تتألف من ثلاثة "ياقات" تم
استخدام الأقل سمكا منها في خياطة ملابس للأطفال، حتى بدأت الوكالة
بتوزيع "البقج" بعد أن استقر المقام بهم في مخيم دير عمار قرب رام الله.
ويروي زوجها أحمد مسعود تفاصيل لجوئه الذي بدأ يوم 3/5 بالقول: إن
بلدهم هجرت بعد حوالي ثلاثة أشهر من تهجير القرى المجاورة والذين
افترشوا الأرض تحت زيتون بيت نبالا المشهورة به، ولكن بعد معركة عند
عقبة دير طريف استشهد فيها عدد من أبناء القرية منهم: علي عبد المجيد
صافي، محمود خضر يزيد، خليل محمود صافي، أحمد شريف نخل، وتعرضت القرية
لقصف مدفعي وطيران من قبل الجيش البريطاني، الذي قام بالتهجير المساند
بقوات يهودية من الشمال والجنوب، فانتشر أهالي البلدة في الجبال حفاظا
على أرواحهم، ومن حاول العودة منهم إلى داره أو لأخذ بعض احتياجاته
قاموا بقتله، واستشهد 95 من أهالي القرية في حوادث متشابهة في إشارة
واضحة إلى عدم السماح للأهالي بالعودة.
وتمتد أراضي بيت نبالا، كما يصفها، بشكل دائري من المدخل الشرقي
الذي أقيم على أراضي البلدة باتجاه الشرق حتى دير طرف بموازاة الشارع
الرئيسي لمدينة اللد، حتى الحديثة لتلتف باتجاه بدرس وشقبا ورنتيس
والطيرة، وتمتد البلدة على مساحة تصل إلى 27 ألف دونم، وكان لها مجلس
قروي، ويبلغ عدد سكانها حوالي4800 نسمة، وكانت فيها مدرسة للإناث وأخرى
للذكور.
لاجئون تحت شجرة الزيتون
وكانت النقطة الأولى التي وصلها حافظ مع عائلته خربة دسرة التاريخية،
وهناك لم يستطع اللف بالبغال، فجلس تحت شجرة السدرة مع عدد كبير من
أهالي القرى المجاورة لمدة ثلاثة أيام بانتظار العودة، ومن أصعب ما
واجهه من مشكلات المياه، فاتجه باتجاه بئر شبتين المعروفة بتغذيتها
للمنطقة بالمياه، وغصت المنطقة بالمهجرين، فتحت كل شجرة كانت هناك
عائلة، وبقي المهجرون شهرا في المكان، وبعد ذلك بدأت جموعهم تتجه نحو
بيتللو وتحت الشجر أيضا لمدة أسبوعين، وبعد التنقل من مكان لآخر قرر
حافظ وعائلته الرحيل باتجاه دير عمار، وهذه المرة ذهب إلى هناك
بالسيارة، وكانت جموع اللاجئين تقيم تحت الشجر المغطى بالخيش مثل العرش،
واستضافهم هناك أبوربحي صديق والد حافظ حتى جاء الصليب الأحمر في
سبتمبر/ايلول من العام نفسه، أي بعد خمسة أشهر من الرحيل.
ومع بدء عمل الصليب الأحمر، تم وضع الأساس الأول لمخيم دير عمار
الذي ضم 14 ألف نسمة، من خلال العمل التطوعي للشباب الصغار في السن،
خصوصا المتعلمين منهم، الذين باشروا بتثبيت الخيام بعد تخطيط مهندسين
لها في خطوط طولية بطول نصف كيلومتر، وتم ترقيمها بعد ذلك وتوزيعها على
العائلات حسب حجمها، وكغيره من المهجرين، حمل حافظ كبار السن على ظهره
لإيصالهم إلى أماكن سكنهم الجديدة، وتم تخصيص خيام كمدرسة وعيادة ومركز
لتوزيع المؤن ومطبخ.
بحثا عن الليرات الذهب
وعن هدم بيت نبالا، قال: "حتى 1949 لم تكن القرية هدمت، لأنني عدت
إليها بعد حوالي عشرة أشهر من هجرها مع ابن خال لي لإحضار ليرات ذهب
كان والدي خبأها في البيت، فوجدنا القرية والبيوت كما هي هناك، وكانت
فارغة باستثناء بعض أهلها من أمثالي الذين تعودوا العودة إليها متسللين
لإحضار بعض
ممتلكاتهم التي يسهل حملها، وظلت بعض معالم القرية وشواهدها قائمة حتى
،1967 وبعد النكبة في سبتمبر أخذنا تصريح لـ "جمعية بيت نبالا" وذهبنا
لزيارتها، وتعريف الجيل الشاب على أراضيهم ومواقع بيوتهم، ولم نصدق نحن
الكبار في السن كيف تصرفنا، عدنا وكأننا لم نغادر هذه الأرض نشير إلى
كل حجر وزاوية في القرية، نتراكض كما الأطفال من مكان إلى آخر، وعندها
قمنا بتنظيف شواهد القبور وإيضاحها، وكانت مدرسة القرية وجامعها كما هي
لم يهدما، ولكننا عدنا بعد سبعة أشهر فوجدنا القبور مدمرة وكذلك
المدرسة والجامع، ولم يبق منها سوى أطلال تشير إلى أن هناك من مروا من
هذه الأرض، ولكن صبارها مازال قويا يتحدى مع بعض الأشجار الحرجية لأنهم
قاموا بقطع جميع أشجار الزيتون التي تشتهر بها القرية.
وهكذا توالت السنون على أجيال أهالي بيت نبالا، يولدون ويكبرون
بعيدا عن أرضهم، ويصرون على عودتهم إلى أراضيهم وقريتهم ليعيدوا إليها
غابر مجدها القديم. تستمر حلقات المعاناة، وتتكرر تجربة النكبة فمن
رحيل إلى رحيل.
أما في خان يونس جنوب قطاع غزة، فالحاجة جازية حسين بقيت شاهدة على
النكبة فقد كانت تسكن قضاء بئر السبع ومازالت ذاكرتها القوية تحفظ تلك
الذكرى المؤلمة وتقول: "خرجت من بلدي بئر السبع تحت أزيز الرصاص وقصف
الطائرات ووحشية عصابات الهاجانا التي لم ترحم طفلا ولا امرأة ولا شابا
ولا شيخا، وتوجهت إلى غزة مع عائلتي المكونة من زوجي وطفلي، فقاسيت
مرارة الرحيل عن بلدي وتركت تلك الحوادث بصمة بالغة في جبيني، فذقت
ألوانا من العذاب خلال رحلتي الطويلة مع الزمن".
وظلت الحاجة جازية تذكر بيتها وأرضها وأنها اضطرت غدرا إلى المغادرة
تاركة أموالها ومتاعها ظنا أنها ستعود خلال يوم أو يومين، ولم تنس
مشاهد القتل وسفك الدم والتعذيب لأبناء الشعب الفلسطيني فهي تذكر جيدا
كيف كان جنود الاحتلال يأمرونهم برفع الرايات البيضاء على سطوح منازلهم
في القرى وإجبارهم على إخلائها والرحيل، ومن لم يفعل يتوعدونه ويقومون
بقصف المنازل واستباحة الأخضر واليابس.
ملاحقة حتى الحي النمساوي
بعد النكبة سكنت الحاجة جازية وعائلتها في منطقة حاجز التفاح غرب
خان يونس، وبنوا لهم بيتا من خمسة طوابق يحاذي المستوطنة المقامة على
أراضي مواصي خان يونس. وفي ظل الحوادث المتصاعدة والهجمة الشرسة قامت
قوات الاحتلال بقصف وتدمير الكثير من المنازل فأصيب منزل الحاجة بقذائف
المدفعية فأصبح المنزل لا يصلح للسكن في حين أن هذا البيت يقطنه ابناها
وكل منهما لديه عشرة أطفال.
واضطرت الحاجة جازية إلى الرحيل... لتكرر تجربة النكبة نفسها ... من
رحيل إلى رحيل. ووفرت لهم محافظة خان يونس سكنا في إسكان الحي النمساوي،
ولكن قبل أن يسكنوها أبى الجيش الإسرائيلي إلا أن يلاحقهم في سكنهم
الجديد فقصفهم بالمدفعية والرشاشات الثقيلة ليقض عليهم أمنهم
واستقرارهم. وما قصة الحاجة جازية إلا واحدة من قصص الألوف المؤلفة من
لاجئي الشعب الفلسطيني المشتت على امتداد خريطة الوطن العربي.
هدية "الأونروا" خيمة!
محمود حسين من سكان منطقة حاجز التفاح في خان يونس، بلدته الأصلية "صرفند"
قضاء الرملة، يشارك الحاجة جازية نكبتها ويعيش كغيره من اللاجئين
المعاناة نفسها، إذ هاجر الحاج محمود سيرا على الأقدام بعد ما أحاطوا
قريته من كل جانب فاحتمى هو وأهل القرية بجامع الرملة الكبير وبدأت
مأساتهم منذ تلك اللحظة، فقام جنود الاحتلال بمحاصرة المسجد واصطياد
وقنص وقتل من يقع في أيديهم دون مراعاة لحرمة المسجد، وقد نجا القليل
من المحاصرين بشق الأنفس.
ومازال الحاج محمود يذكر بعد توجهه الى خان يونس عندما أعطته وكالة
الغوث "الأونروا" خيمة لا تكفي له ولأسرته المكونة من12 فردا. ويعود
الحاج محمود بعد رحلة طويلة من العذاب والتهجير إلى نكبة أشد بشاعة إذ
يقطن في بيت متواضع من ست غرف ويكتظ البيت بأبنائه وأحفاده البالغ
عددهم الثلاثين، ويقول انه عاشر النكبة الأولى وهذه الحوادث أشد ضراوة
وشراسة وقتلا وتدميرا، فقد استخدم جنود
الاحتلال المجنزرات والدبابات لتدمير بيته مع بيوت المخيم مستخدمين
العتاد العسكري لتدمير وتحطيم المحتويات الموجودة كافة، ومازالت الحاجة
جازية والحاج محمود يحلمان بالعودة إلى بلدتيهما اللتين هجرا منها. |