جائزة السلام الألمانية لهابرماس: فيلسوف الحركات الاجتماعية الجديدة

هابرماس.. فيلسوف أنتجته الحرب

على هامش دورة المعرض الدولي للكتاب لعام 2001، منح المكتبيون الألمان جائزة السلام للفيلسوف الألماني يورجن هابرماس الذي يعدّ واحداً من أهمّ ورثاء مدرسة فرانكفورت التي عرفت أفكارها وطروحاتها شهرة واسعة عقب الحرب الكونية الثانية، وقد ولد هابرماس عام 1929 في بلدة صغيرة قريبة من مدينة كولونيا، وعن طفولته يقول: (بقطع النظر عن الاضطرابات التي عرفتها السنة الأخيرة من الحرب الكونية الثانية، نشأت في ما كان يبدو لي في الظروف العادية لمدينة صغيرة، بالنسبة للطفل، العالم الأليف أي العائلة والجيران والمدرسة، هو الذي يحدّد عناصر الاعتيادي وغير الاعتيادي، فقط حين يصبح مراهقاً يتمكن من إقامة مسافة بينه وبين هذه العناصر، ولم أكن قد بلغت بعد سن السادسة عشرة، حين دخل الأميركان ألمانيا، والمفارقة الناتجة عن الصور وعن الأخبار التي حاصرتني خلال صيف 1945 كانت جد عنيفة، فأنا لم أكن مهيأ لكي أشاهد على شاشة السينما تلك الهياكل البشرية المتحركة التي عرضها الألمان على الناس بعد أن تمّ إغلاق المعسكرات النازية. وأقدر أن أقول إن التحول الذي حدث عقب 1945، والذي أضاء ما كان يبدو لي حتى ذلك الوقت عادياً ودونما أهمية أو قيمة،لقّحني ضد كل ما يمكن أن يلتقي بصلة إلى النازية والفاشية وغيرهما من الأيديولوجيات الشمولية السوداء.

خلال المرحلة الجامعية، التي استمرت من عام 1949 إلى عام 1954، اصطدم هابرماس الشاب بأحداث سياسية وفلسفية سوف يكون لها تأثير حاسم على توجهاته الفلسفية والفكرية مستقبلاً، فقد ساند هاينمان عندما قرر الاستقالة من حكومة اديناور احتجاجاً على مشروع هذا الأخير القاضي بإعادة إنشاء جيش ألماني مساند للحلفاء. أما الحدث الآخر، فقد تمثل في معارضته الشديدة للبرامج الدراسية السائدة في الجامعات الألمانية منذ العشرينات معتبراً إياها (فاسدة ومسمومة)، خصوصاً بعد أن سمح اديناور لبعض الأساتذة النازيين القدماء بالعودة إلى وظائفهم، غير أن قراءته لنص مارتن هايدجر (مقدمة للميتافيزيقا)، هي التي كانت الحدث الأهم، إذ أنها كشفت له سر افتتان هذا الفيلسوف الكبير بالنازية وصمته عن جرائمها.

أواسط الخمسينات، عاش هابرماس حدثاً يحدّد بشكل حاسم توجهاته الفلسفية، فقد التقى بتيودر ادورنو، أحد رموز مدرسة فرانكفورت، ومنه تعلم كيف يستعمل الأدوات الماركسية لتحليل الواقع الراهن، كما ساعده على اكتشاف فرويد الذي لم يكن قد قرأه حتى ذلك الحين.

مطلع الستينات، انتقل هابرماس للتدريس في جامعة هايدلبرج، وفي هذه الفترة أظهر اهتماماً كبيراً بعلم النفس، وبالطرق التي تتم بها معالجة المصابين بالأمراض النفسية، وتحت تأثير ذلك، أصدر عام 1968 كتاب المعرفة والمصلحة، الذي يبدو كما لو أنه محاولة لتأسيس نظرية نقدية للمعرفة، غير أن الهدف الأساسي من هذا الكتاب هو انتقاد التأثير الكبير الذي أحدثه علم الاجتماع الأميركي في الفكر الألماني خلال الستينات، فقد أبرز هابرماس أن العلوم التجريبية ليست لها غير قيمة جد محدودة،خصوصاً عندما نقترب من مجال الظواهر الاجتماعية، معنى ذلك، أن هناك علوماً أدق منها، تتمثل في العلوم الاجتماعية.

في كتابه الآخر (نظرية الفعل الاتصالي)، يقترح هابرماس مفهوماً للفلسفة من عصر الحداثة عقب انهيار الرؤى الدينية والميتافيزيقية، كما يقترح أيضاً طريقة جديدة للتفكير في ماهية الحقيقة، خصوصاً بعد أن حرّرت من نفوذ السلطة العليا، وفي هذا الكتاب، لا يبرز هابرماس كفيلسوف فقط، إنما كمثقف يمتلك وعياً سياسياً وعالياً. بالنسبة لي، النازية ليست ظاهرة تنتمي للماضي، وإنما أيضاً إلى الحاضر والمستقبل، ذلك أن خطرها يرتبط بالحداثة. ومنذ بروز (الخضر) على المسرح السياسي الألماني مطلع الثمانينات، انكب هابرماس على تحليل الظاهرة الجديدة قائلاً: (إن الخضر يمثلون النواة المنظمة لما يمكن أن نسميه بـ (الحركات الاجتماعية الجديدة)، التي تجلب إليها فئات من الطبقات المتوسطة التي تشعر بأنها مهددة نتيجة المشاريع التكنولوجية الضخمة. وأيضاً شباناً أتاح لهم التكوين الذي تلقوه في المدارس والجامعات، وهو عادة ما يكون تكويناً عالياً، امتلاك حساسية مفرطة أحياناً تجاه عبثية التطور الصناعي، ونساء يرغبن في مزيد من الحريات، وعاطلين عن العمل يعيشون متاعب الحياة اليومية في عالم لا يرحم. ويواصل هابرماس الحديث عن الخضر قائلاً: (إن أهداف هذه الحركة السياسية الجديدة سلمية، تتمحور بالخصوص حول ضرورة الدفاع عن الطبيعة ضد مخاطر التصنيع المجنون، وعند العديد من المنتسبين إليها، هناك حنين لأشكال حياة بديلة أكثر أخلاقية من حياة آبائهم).

وخلال السنوات الأخيرة، أهتم يورجن هابرماس بالعولمة مخصصاً لها العديد من المقالات والمحاضرات، وهو يقول: (إن مسألة الأمن العالمي في عصر الصورايخ العابرة للقارات وانحسار الأسواق الوطنية نتيجة رأسمالية أسقطت الحدود والعراقيل بين الدول وغيرت وجه العالم بصورة منقطعة النظير. وقد أحدث هذا الوضع الجديد تغيراً مهماً في العلاقات الدولية وباتت الحدود بين الدول التي كانت تحرس بشكل مشدد أحياناً، مفتوحة أو شبه مفتوحة أمام الأفكار والسلع وغير ذلك. لذا بإمكاني أن أقول إن السياسة الخارجية الكلاسيكية لم تعد موجودة. أما السياسة الخارجية الجديدة، فتمتزج بالسياسة الثقافية وبالسياسة الاقتصادية. إلى جانب كل هذا. حدثت تغيرات أخرى، فالأمم المتحدة مثلاً ابتكرت مفاهيم جديدة في السياسة العالمية مثل (حرب عدوانية) و(جريمة ضد الإنسانية)، و(حقوق الإنسان)، مساعدة على بعث محاكمة دولية لمحاكمة رؤساء دول شخصيات سياسية وعسكرية كبيرة متورطة في حروب عرقية، أو في جرائم ضد أقليات. وهناك مشاكل أخرى كانت مهملة، قفزت إلى الواجهة الأولى وأصبحت تحظى باهتمام عالمي مثل المحافظة على الطبيعة على سبيل المثال لا الحصر، كل هذه المتغيرات على المستوى السياسي والاقتصادي، فتحت أمام العالم آفاقاً جديدة لم يعرفها من قبل ابدا. وعلى الفلاسفة والمفكرين أن يواكبوا مثل هذه المتغيرات وإلا فإنهم مهددون بفقدان الدور المناط بعهدتهم منذ عهد الإغريق وحتى هذه الساعة.

وعن القرن العشرين وأحداثه، يقول يورجن هابرماس: ( يمثل عام 1945 منعرجاً مهما بالنسبة لنا نحن الألمان والأوروبيين، وليس من الصدفة في شيء أن تكون الديمقراطية والعلاقات بين المواطنين والرفاهية الاجتماعية والاقتصاد الاجتماعي الموضوعات الأساسية بالنسبة لي. لم يعرف تاريخ العالم عنفاً يماثل العنف الذي انفجر في العالم خلال النصف الأول من القرن العشرين. بطبيعة الحال ليس علينا أن نهمل القمع والمجازر الفظيعة التي ارتكبت خلال النصف الثاني من القرن العشرين، خصوصاً في فترة الحرب الباردة، لكن ما سبق ذلك كان أفظع وأمر بالنسبة للإنسانية جمعاء.

أرشيف الأخبار  |  الصفحة الرئيسية  |  اتصلوا بنا