تتقابل اليوم في ذهنية المجتمع في العراق مفردتي (الانتخابات
Elections) و (التصنيع Industrialization) لقد برز هذا التقابل نتيجة
لما مر به القاموس السياسي العراقي من عدم وضوح المفردة، وخضوعها
لهيمنة الاختزال وقسوة التطويع المستمر، فعند التأمل في تأريخ مفردة (انتخابات)
والإرث السياسي الذي تحمله، نعثر على أن مردود مفردة (الانتخابات) وقوة
ارتكازه في الحياة السياسية العراقية ذات أثر سلبي مصاحب لارتداد سياسي
مستمر حمل معه معطيات تشير إلى انتعاش دائم لصفة التلفيق السياسي، ففي
السابق مع بداية انطلاق مشروع مؤسسة السلطة في العراق استخدمت
الانتخابات كمحطة استراحة لإعادة ترتيب أوراق السلطة والتقاط فرصة
جديدة للحفاظ على وجود مراكز القوى الموجودة آنذاك ولهذا حطت مفردة (الانتخابات)
على أرضية الشك وعدم الارتياح في تأريخ العراق السياسي السابق. هكذا
ساهم حضور مفردة (الانتخابات) متزامنا مع وصول الكونيالية العسكرية إلى
العراق، وكأن الحضور جاء من رحم استعماري مغاير ومفارق لطبيعة المجتمع
ونوعية بنيته الثقافية فأسهم في اتساع الأرضية السابقة، ولهذا سقطت
مفردة (الانتخابات) في هاوية نظرية المؤامرة وخيالاتها المتكاثرة في
سلوك المجتمعات العربية. لقد دفعت مفردة (الانتخابات) في الوسط السياسي
السابق لتقع تحت سطوة التطويع والاختزال كما ذكرت، وتصبح مفردة تلصق
بممارسة استبدادية تكبت مفهوم مفردة (الانتخابات) الذي هو في عمقه
تداولي عقدي يقع بين المجتمع ومؤسسة السلطة، لقد كانت هذه الممارسة هي
عملية (استفتاءQuestionnaire ) التي حدثت في العراق، قصدت السلطة من
القيام بعملية (الاستفتاء) التأكيد على حصول التماثل بين مفردة (الانتخابات)
ومفردة (الاستفتاء) أي إلغاء الاختلاف الأكيد بين المفردتين، وهكذا
تتمكن السلطة في العراق من تغييب مفردة (الانتخابات) في معنى (الاستفتاء).
لقد أكدت تلك الأخلاقيات السياسية نجاح عملية التمويه التي قامت
بإنباتها في البيئة السياسية العراقية.
أما مفردة (التصنيع) فهي لا تقل غموضا ومشكوكية من قبل المجتمع
العراقي عن مفردة (انتخابات)، إن مفردة (التصنيع) دخلت في الوعي
العراقي ملازمة لمفردة (حربWar ) بحيث صار ينظر إليها كأنها مفردة
عسكرية، حربية، إذن هي مرادف لمفردة (الدمار والحربDestruction and
War) الذي يقع على المجتمع مع حدوث الحرب لذا استقبل المجتمع العراقي
مفردة (التصنيع) كأسلوب من أساليب الدكتاتورية وما توفره من تكثير
خيارات بقائها وديمومة وجودها، استدرجت السلطة في العراق مفردة (التصنيع)
لتصطدم بها مع أخلاقية المجتمع في العراق، وبالتالي تضعها في مقابل
مفردة (الفشل والزيف Failure and Artificiality ) ولهذا أطلق العراقيون
على كل شيء غير جيد بأنه (تصنيع عسكري).
أما اليوم وبعد تاريخ 9/4/2003 فإننا بأمس الحاجة إلى مفردتي (الانتخابات
والتصنيع) وهذه مفارقة عجيبة بعد هذا التأريخ السيئ لهاتين المفردتين،
إذ نجد أنفسنا ليس أمامنا من مفر غير إعادة اقتراب جديد يمتلك حس القطع
والبناء المختلف، ففي العراق الشاخص اليوم نواجه عدة أزمات أخذت تسرق
أملنا بالسعادة والخلاص من الدكتاتورية إذ تكاثرت أوجه الأزمات على عدة
أماكن فمن أزمة الأمن إلى أزمة المرور....الخ، يكاد يتفق الجميع على أن
القضية في أساسها هي أزمة الشرعية السياسية التي لا تقوم على لحظة
الضرورة السياسية وعامل الانتقال الطارئ، الذي يتجاوز بصمت ازدياد منعة
مراكز القوى في مقابل فقر وضحالة آلية توازن القوى التي تضمن انفتاح
الحياة السياسية على المجتمع بكافة قواه السياسية والمدنية، إن المجتمع
في العراق بحاجة اليوم إلى عملية تصنيع سياسي انتخابي ينتج لنا الشرعية
السياسية المطلوبة.
إذن تعود لتتقابل مرة أخرى مفردتي (انتخابات وتصنيع) في العملية
السياسية العراقية، ولكن هذه المرة في طور مختلف ومعنى قاموسي- سياسي
معاصر يأخذ بنظر الاعتبار احتياجات الظرف الراهن واتجاهاه إن الكلمات
لا تبدل وإنما المعاني تتغير.
*كلمة المحرر المنشورة في العدد الاخير من مجلة
النبأ الصادرة من العاصمة العراقية بغداد وفيها ملف خاص عن الانتخابات
بعنوان: الانتخابات في العراق: الشرعية.. المستقبل |