جاء العصر الحديث ومعه علومه التي غيرّت وجه العالم فأنجر الإنسان
من حيث يدري أو لا يدري لمجاراة المتغيرات السريعة التي ضعف أمامه كل
تربص حتى غدت العلوم الحديثة سلطة قائمة بحد ذاتها ولكن ما حاصرت به
الإنسان أنها جعلته متقبلاً على وجه العموم لما تأتي به وما تريده، وما
يزيد الحال ضبابية أكثر أن خوض المنافسة على ترويج بضائع الانتاجات
العلمية على المستوى الإقناعي إضافة للتجاري هو الذي يسود دون أن يكون
للرأي الاعتراضي على النوع في تلك البضائع أي فعل مؤثر.
كانت دائرة الحوار حول رسالة العلم قديماً تصب في صالح الإنسان
وتستهدف خدمته صحياً وفكرياً وتربوياً ومعلوماتياً وبذاك فقد ساد العلم
ونتاجاته البدائية وتقدم في مسيرته ببطئ بين مجتمع مجاور لمجتمع آخر
وربما مدينة قرب مدينة إلا أن ظهور (الاحتكار) في العصر الحديث قد قلب
كل الموازين فالإنسان بطبعه العام طماع ويطلب المزيد الذي إذا ما توفر
له طلب مزيداً آخراً.
ولأن النظم السياسية الشمولية لم يقتصر تدخلها على الشأن السياسي
فإنها قد عممت شموليتها على كل ما اعتقدته أنه مجال يمكن أن يوظف ضد
استمراريتها في الحكم وهذا الهاجس السلبي قد خلخل الأوضاع الاجتماعية
حيث أضحت الخشية من الدولة تعصف بمشاعر المواطنين الأسوياء السمحين ممن
لا يتدخلون في السياسة ومكائدها ومكيديها ومن هذا الفهم الأولي فإن
مقصود العلم قد يأتي لفائدة مطلقة، وقد يأتي لإلهاء الناس خصوصاً بعد
أن أصبح العلم في جانب منه يثق ويدعوا للإباحية عبر استغلال رقي
الطباعة لطبع صور ومجلات الخلاعة كما تساهم تطور علم الفضاء في نقل ما
هو شائن ومنافٍ للأخلاقيات الإيجابية تحت لافتة (العلم الحديث) والأمر
كما معلوم غير محسوم لحد الآن وليس هناك في الأفق ما يبشر بذلك أيضاً
على المستوى المنظور فلقد سادت مخترعات إلكترونية استطاعت النفاذ عبر
قنوات غبية حتى بات الخطر الداهم قد وصل إلى داخل البيوت المحافظة وبذا
فإن العالم اليوم بقدر ما يبني أركانه فهو يهدم ما سبق أن بناه لصالح
سوية الإنسان.
أما عن تدخل العلوم في مسار المجالات العلمية فقد حرّف الكثير من
غايات العلوم المجيدة فزرق الأبر لمعالجة المرضى أصبح ممكناً أن يكون
المحتاج إليها أحد ضحاياها فعدد من الأطباء سياسيون ويقتلون مرضاهم في
بعض المستشفيات العامة بأكثر البلدان التي تحكمها فئات استعمارية أو
ذيلية لها، والسلاح الفتاك الذي يدعو كل قادة العالم لإفنائه مازال
يتقدم في إنتاج نوعيات منه أرقى من نماذجه المتدولة والغريب أن التطور
في صناعة السلاح يلاقي استحساناً من قبل أولئك الذين لم تكويهم بعد
نزالات السياسيين السلبيين وما أكثرهم في كل عهد.
إن موضوع ابتغاء تركيز الجانب الإنساني في كل علم هو رسالة الحياة
الحقة أما ما يمثله التقدم الهائل للأسلحة الحربية على مختلف أنواعها
فيعني أن هناك انحداراً ساقطاً يتحكم بالحركة العلمية ويجعلها في غير
مسارها الصحيح وما فقدان الأمان في عموم المعمورة إلا وجهاً من أوجه
أزمة الإنسان مع نفسه.
من الإقرار الذي لا شائبة عليه أن في كل يوم هناك اكتشاف علمي يظهر
على شكل بضاعة أو لعبة أو جهاز مرئي أو صوتي أو دواء يقال أنه يشفي
ومثل هذه الشمولية في رسالة العلوم لا ينبغي أن تنكر أن أي علم إذا لم
تكن غايته خدمة الإنسان ومصالحه فهو ليس علماً بل مصيدة علمية. وعالم
اليوم الذي يبدو واضحاً أكثر من أي عهد مضى يحوي الكثير من الأسرار
المحفوظة ولأجل أن يتم التخطي بالعلوم الحديثة إلى ما يشبه المؤامرة
فعلى أصحاب الشأن الذين يهدمون بالغايات أكثر من الطعن بالحقائق
الإنسانية أن يعيدو النظر حتى تكون كل العلوم قد استعادت جانبها
الإنساني المطلوب فحصار كل الوجود هو الوصول إلى ذروة تطبيق مبادئ
الإنسانية لا اغتيالها. |