لا يمكن للإنسان أن يستغني عن القيم الإنسانية التي بها قوام
إنسانيته، وإن كانت هناك فترات تباعد وكبوات تقصير إلا أنه يحس بغربة
الوحدة ويشتاق إلى الجموع البشرية ويتحمل تبعات الحياة معهم بفرحة
ونشوة لا تقدر فهو أهون من وحشة الوحدة والكراهية على كل حال.
ولكن في هذا العصر أو ما يسمى بعصر النهايات والمابعديات حيث يجعل
نهاية لكل شيء حتى للقيم والأخلاق كنهاية الأيديولوجيا ونهاية التاريخ
ونهاية الحقيقة ونهاية البحث عن المعنى فمع التزايد التدريجي للنسبة
يصبح من المستحيل الإيمان بأية قيم، وهو ما يعني اختفاء النزعة
النضالية وتلاشي النزعة الطوباوية وكل الأحلام المثالية عند الناس، حيث
يرفض الإنسان إرجاء إشباع اللذة الفردية، ولكنه مع هذا، يشعر بأن عليه
أن يتكيف مع واقعه ويقبل عمليات التسوية في المجتمع التي تسوي الإنسان
بالإنسان وتمحو فرديته وعالمه الجواني ثم تسويه بالأشياء.
يتسارع تآكل الأسرة إلى أن تأخذ في الاختفاء تماماً وتظهر أشكال
بديلة من الأسرة (أسرة من رجل واحد وأطفال. امرأة واحدة وأطفال، رجلان
وأطفال، امرأتان وأطفال، رجلان وامرأة وأطفال...).
وتظهر حركة التمركز حول الأنثى التي تنظر للمرأة باعتبارها كائناً
في حالة صراع مع الرجل، ولذا لا تطالب هذه الحركة بحقوق المرأة، وإنما
تطالب بتحسين كفاءات الصراع مع الرجل وتغيير اللغة وتعديل مسار التاريخ،
ومع ضمور النزعة الطوباوية واختفاء الأسرة كآلية لنقل القيم وإعلاء
الرغبات يتزايد السعار الجنسي عند الأفراد، ويزيد حدته قطاع اللذة الذي
يعمل على هدم القيم الأخلاقية وإشاعة القيم الاستهلاكية التي تصبح
المعيار للحكم على الإنسان (ولذا يحل الذوق الجيد محل الأخلاقيات
الحميدة والقيم الجمالية محل القيم الأخلاقية). ومن الأسباب الأخرى
التي أدت إلى السُعار الجنسي انفصال الجنس عن القيمة الأخلاقية
والاجتماعية، بحيث أصبح النشاط الجنسي مرجعية ذاته. وقد أصبحت اللذة
إحدى الآليات التي يستخدمها المجتمع العلماني الحديث في استيعاب
الجماهير في عمليات الضبط الاجتماعي بعد أن كان يبذل جهوداً لمحاصرتها
وإعلائها، وتتم عملية الاستيعاب والضبط لا من خلال القمع الصريح وإنما
من خلال الإغواء، وهو شكل من أشكال القمع الخفي حيث تتم إشاعة الإحساس
بأن حق الإنسان الأساسي (بل الوحيد) هو الاستهلاك وبأن إشباع اللذة هو
أقصى تعبير ممكن عن الحرية الفردية، وهو ما يعني ضمور اهتمام المواطن
برقعة الحياة العامة وتركيزه على ذاته ورغباته، ولكن هذه الذات وهذه
الرغبات يتم تشكيلها وصياغتها وتوجيهها من قبل صناعات اللذة وأجهزة
الإعلام التي توغلت تماماً فيها، والتي تقوم باقتحام أحلام الإنسان
وترشيده من الداخل والخارج. فيظهر الإنسان ذو البعد الواحد الذي تم
ترشيده من الداخل، ويظهر المواطن المخدَّر الذي تتركز أحلامه في تحقيق
انتصار جنسي أو فوز النادي الذي ينتمي إليه فوزاً ساحقاً.
ويلاحظ ظهور الإنسان الجسدي، وشيوع الحب العرضي، ويعدّ عام (1960)
هو نهاية القيم البيوريتانية الخاصة بالقمع والإرجاء، فقد ظهرت حركة
الجنس المطلق أو المرسل، وتعدّ ثورة الشباب في الستينات معلماً أساسياً
في تاريخ المتتالية التحديثية والعلمانية الشاملة، فحتى ذلك الوقت لم
تكن علمنة سلوك الإنسان الغربي قد اكتملت بعد، رغم علمنة رؤيته وأحلامه
ورغباته، وهو ما تم إنجازه في هذه المرحلة، وكانت اللذة الحسية حتى ذلك
الوقت مقصورة على الطبقة الحاكمة ولكن تم تعميمها وخصخصتها وجعلها
متاحة للجميع، أي تم التوزيع العادل لإمكانات إشباع الرغبات الحسية،
وكل ما يطلبه المجتمع الآن من الإنسان هو الاستسلام واللذة، وقد صاحب
هذا تزايد استهلاك المخدرات بين أعضاء النخبة والشباب.
وتتزايد سرعة الحياة العامة وإيقاعها (خاصة استخدام التليفون
المحمول) الذي حول رقعة الحياة الخاصة إلى حياة عامة) وتتسع رقعتها
لتشمل معظم الحياة الخاصة للإنسان. ويتغلغل السوق والتعاقد والتبادل في
كل مجالات الحياة (الوجبات السريعة بدلاً من الطعام. الكريدت كارد بدلاً
من النقود) وتتم علمنة التعليم والرموز والأحلام تماماً، ويلاحظ احتمال
عملية التنميط، ومع هذا تتغير الأساليب والطرز إلى درجة يصعب على
الإنسان استيعابها، وتتسع رقعة الحياة العامة وتتسارع وتيرتها، ولا
توجد قواعد عامة في المجتمع، ومع هذا يلاحظ وجود عدد هائل من القواعد
والإرشادات التي تتغير كل يوم، كل هذا يعني في واقع الأمر أن لا وقت
للتأمل، فالذات محاصرة بالتعددية السلعية والمعلوماتية المفرطة التي
تلتهم الإنسان ولا تمنحه سعادة أو حكمة، فيبتلع كل شيء ويتشيأ في مجتمع
التبادل والاتصالات وتصبح الصورة أهم السلع (صورة الذات والصور التي
يتلقاها المستهلك).
ولذا يتزايد إحساس الإنسان بعدم الجدوى وانعدام الهدف وبأنه لا يملك
من أمره شيئاً:
الإعلام يقرر ما ينشر وما لا ينشر. الهندسة الوراثية تتحكم في كل
شيء. الكمبيوتر يقسم العالم (وضمن ذلك الإنسان) إلى وحدات بسيطة يتم
تناولها، ويؤدي كل هذا إلى أن ينسى الماضي ويتولد لديه الإحساس بأنه في
حاضر أزلي.
وفي العالم الثالث يلاحظ تزايد معدلات التغريب بشكل واضح، ويصبح
نجوم السينما هم المركز ويتبنى الناس الاستهلاكية إطاراً للحياة
والبرجماتية أو الداروينية أطراً معرفية. |