يتغابى من يعتقد أن الشعب العراقي مغمض العينين ولعل أفضل وصف وصف
به شعب العراق ذاته على مرّ الأزمان السياسية: (أنه شعب مفتح باللبن)
أي لا يعبر عليه من يريد الضحك على ذقون أبنائه فرغم أن المحنة الكبرى
والشاملة التي ألمت بحياته جراء خطة العداء التي نفذها الفريق السياسي
الصدامي العميل ضد المجتمع العراقي لكن صبره قد أفلحه في إزالة النظام
الصدامي الاستعماري بقدرة الله سبحانه وتعالى حين جعل بأس الغرب منتصراً
على بأس ذلك النظام رغم الغزل الذي كان بينهما.
إن العراقيين كانوا قد خبروا هوية الفريق السياسي للكتلة التي
استولت على الحكم في انقلاب شباط 1963م المشبوه فحين محصوا خطوط تلك
الهوية فلم يجدوا فيها ما يشير إلى سوية شخص واحد من بين ذلك الفريق قد
عُرف بحميد الأخلاق ومن كان يفتقر إلى الأخلاق الحميدة هل يعقل أن يكون
سياسي عادل؟! الجواب بالنفي طبعاً هو الخلاصة لذاك الحال الذي أوصل
حثالة من المجتمع العراقي إلى دست الحكم في ظرف سياسي مربك.
وبمجرد استلام الفريق السياسي لكراسي الحكم مرة أخرى أثر انقلاب سنة
1968 أضطر النظام لعمل موازنة جديدة استندت (تكتيكياً) لإدعاء الوطنية
والقومية والحرص على التمسك بهما كمبادئ أساسية لسلطة ذاك الانقلاب
وكأن الناس بين مصدق قليل ومكذب كثير ولم تمض أيام حتى انكشفت حقيقة
الانقلابيين لذاك الفريق ورجحت كفة القائلين أن هؤلاء السرسرية الذين
يشكلون عصابة الحكم الجديد لا خير فيهم ولا أمل يرتجى منهم وأن الأمر
لا يحتاج إلى نظرة تقويم جديدة لهم حيث أن المجيء الانقلابي الجديد
استدعى أن يتقولوا ببعض المبادئ السياسية التي كانت متداولة لدى بعض
أحزاب المعارضة العراقية وعززوا تلك التقولات الكاذبة باتخاذ بعض
الإجراءات التي بدت إيجابية من باب إثبات حسن النية مع الشعب وكانت
تمثيلية غلق سجن (نقرة السلمان) في الصحراء الغربية داخل العراق وغلق (قصر
النهاية) ببغداد قد انطلت على بعض المغفلين من سياسيي تلك الفترة التي
كانوا فيها بصف ما يسمى بـ(المعارضة).
والمراد اليوم من خلاصة التجربة السياسية مع الفريق السياسي الصدامي
المهزوم (بقرار استعماري دولي) قبل البدء بتحريك الجيوش الغربية في
الإطاحة بالنظام، أن عيون الشعب منفتحة اليوم تماماً على ما يجري في
العراق رغم أن الصمت هو رائد عند الرأي العراقي الوطني الحقيقي. وما
مجاملة أهل العراق لإبداء القبول بالوضع الراهن إلا تعبيراً عن ضرورة
فسح المجال (عملياً) معنى أن يكون مبدأ (العولمة) الذي يُعلن في أحد
جوانب سياساته أنه لا ينبغي السيطرة على الغير. لكن ما لا يمكن تأييده
أن تسير أوضاع العراق الراهن على سكة المجهول مجدداً.
والحكومة العراقية المؤقتة الحالية وبحسب التقديرات العراقية
المخلصة تعاني من ضغوط دولية غربية ومن ضغوط إقليمية مشبوهة أيضاً كي
يعود العراق إلى موقعه السياسي (السابق) بين دول العالم، ومعنى السابق
هنا أن يتبنى العراق وعلى نطاق سري ما يخشاه العراقيون من فكرة تعميم
البطش بالناس الأبرياء ولكن بطريقة يختلف ديكورها السياسي عما كان
ينتهجه النظام البائد من أساليب إجرامية معروفة.
إن بوادر جديدة في الوضع العراقي قد ظهرت وهي تتناقض مع غاية (عملية
التغيير) في العراق فمثلاً أن رفع شعار (المصالحة الوطنية) ويقصدها بها
مع فلول النظام الصدامي سوف لن تكون أكثر من مصالحة بين الشعب العراقي
المظلوم مع بقايا عصابة النظام السابق الظالمين وهذا ما يتنافى مع مبدأ
(اقتران القول بالعمل) ويشكل استخراداً علنياً لمشاعر وحقوق الشعب
العراقي الذي كان ضحية استعمارية النظام السابق.
صحيح أن مجاملات تتم اليوم فيما بين القوى السياسية العراقية
المؤتلفة مع الوضع العراقي الجديد فمثلاً يعزي هذا باستشهاد ذاك أو
يهنيء هذا أو ذاك بين أشخاص وتنظيمات الحركات السياسية العراقية
الراهنة المشاركة بطريقة وبأخرى في القرار السياسي للحكومة العراقية
المؤقتة إلا أن ما يمكن الإشارة إليه هو لأيدي الفاعلة في الوضع الجديد
داخل العراق قد جعلت الولايات المتحدة الأمريكية تمنح عقوداً لشركات
بريطانية وأمريكية لإعادة قطاع الكهرباء والماء في العراق بقيمة تجاوزت
(المليار دولار) بحسبما أعلنت ذلك وكالة رويترز في 13 آذار من هذه
السنة مما يعني أن العراق سيكون بمثابة ذخيرة كبرى لامتيازات أرباح
طائلة لاحقة للغرب.
إن شعب العراق بقدر ما يطالب أن لا تنسى حقوقه وأن للقوى السياسية
القريبة من سلطة الحكم دوراً لا بد وأن تلعبه بهذا الشأن إلا أن تنكر
تلك القوى أو تقاعسها سيزيد الطين السياسي بلة في العراق إذ تقتضي
المصلحة العليا للبلاد أن يتعامل العراق الانتقالي الراهن مع العالم
الخارجي فلقد قُبر حكم سياسيو النظام السابق وعلى من يريد أن يعامله
العراق إيجابياً أن يحترم آراء العراقيون في أعداءهم فمرحلة ما بعد ذاك
الحكم البغيض تستوجب أخذ وعي المجتمع العراقي بكل اعتبار وبلا أي
اجترار جديد. |