تكاد الثقافة في العراق الجديد أن تكون قد تخطت مسافة شاسعة نحو
تركيز البديل الثقافي الأفضل لما يمكن أن يكون.
بمجرد أن سقط النظام البائد وولى فريقه السياسي هارباً بعار إرهابه
ونهج فاشيته بدأ العراقيون يشعرون بقيمة الحرية أكثر التي رفع شعارها
ذاك النظام وقدم للمجتمع نقيضها حتى كره الإنسان العراقي معنى (الحرية)
لأن النظام السابق كان يرفع مفردتها كـ(شعار) حين صاغ ديباجته المزيفة
بـ(وحدة، حرية، اشتراكية) والتي عنت ضمن ترجمتها إلى أفعال حين عمل
النظام بكل ما في وسعته على تفريق الشعب العراقي عبر إثارته لمسألة
الطائفية وتقريب ذوي المذاهب السنية وتوريطهم في المشاركة بأكثر جرائمه
وحتى لا ينفضح أمره (علانية) عمد النظام البائد للتفتيش عن بعض
الساقطين أخلاقياً وسياسياً ليلحقهم بفريقه السياسي ولكن اختيارهم
لهؤلاء كان في تلك المرة من الشيعة لأجل تغطية النفس في التفريق
الطائفي الذي كان النظام يعتمده في اختيار من يراه معتقداً أنه غير
مضطهد مما عنى أن اضطهاد الشيعة الذي تنوع صدام وفريق حكمه في تنويع
جرائمه ضدهم لأنه يعلم ومع أسياده الذين نصبوه حاكماً على كرسي الحكم
أن الشيعة مضطهدين ولا بأس من أن يسلط السنة السياسيين الموالين للنظام
ضدهم وهذا ما كان ومازال يخالف مواقف السنة الوطنيين في العراق وأن
مساندة صدام للسنة بذاك الشكل المفضوح لم يكن حباً بالمذهب السني ولا
بالناس السنة الذين لهم من الحرص على الأخوة العراقية كبقية أفراد
المجتمع العراقي، إلا أنه يمكن القول أن النظام البائد قد نجح في تعميم
ثقافة عراقية سياسية تستند في أهم خطوط توجهاتها نحو تمجيد الفاشية
ونحر الوطنية عبر الخضوع لمنطق الحكم الصدامي الاستعماري الذي انتقم من
الشعب العراقي (أسوأ انتقام) تطبيقاً لحقد الاستعمار عليه. لذلك فإن
خنق أنفاس الناس وحرمانهم الطويل من التنعم بلذة الثقافة الحقة والحرية
المؤملة قد أخذ المجتمع العراقي يمارسها إثر هزيمة النظام المتوقعة من
ناحية والمقررة من جانب آخر وجاءت عمليات إصدار الصحف كولادة جديدة
للثقافة العراقية في مرحلة (ما بعد حكم صدام) حتى يقال أن عدد الصحف
العراقية الصادرة بلغ الآن زهاء (250) صحيفة متنوعة لدرجة أن صحيفتان
أسبوعيتان ساخرتان تعتمد على الفكاهة الساخرة تحملان نفس الاسم وهو (جنربوز)
أحداهما ملونة والثاني بالأسود – الأبيض ويرأس تحرير الصحيفة الأولى
الصحافي (علي حنون الدليمي) ورئيسة تحرير الصحيفة الثانية هي الصحافية
(عشتار الياسري) والصحيفتان تصدران بتمويل ذاتي وتعتمدان في نشر
مادتهما على الرسم بالكاريكاتير. ومعلوم أن (جنربوز) هو اسم يرمز إلى
الشخصية البغدادية المساكسة المعروفة بالشهامة واللطافة وكونه يقف إلى
جانب المظلومين والضعفاء، ويأتي اختيار اسم (جنربوز) كنوع من الامتداد
لصحيفة (جنربوز) التي أصدرها الصحافي (نوري ثابت) سنة 1931م ببغداد
وهذه كلها هي بشارات ثقافية على ضرورة أن لا يحبس أنفاسهم لما يريدوا
أن يقولوه ففي إحدى أعداد جنربوز الأخيرة قد نشرت صورة كاريكاتيرية
لـ(هولاكو) قائد المغول الذي احتل بغداد المحترقة سنة 1258م وهو يحمل
سيفاً أما الصورة الثانية فلبغداد وهي تتعرض لقصف الطائرات الأمريكية
والبريطانية وقد كتبت عليها: (هولاكو سنة 2003م).
والثقافة العراقية الراهنة التي بدأت غير وجلة من المحتلين
البريطانيين والأمريكان لحرّي أن تستمر في ممارسة حرية النقد دون أن
تحسب من مسائلة أو إجراء وإلا فإن التحفظ على هذا الأمر سيقود إلى ظهور
ثقافة أخرى موالية لنظام الحكم العراقي أو موالية للأجانب وهذا ما
يرفضه عموم العراقيون. إن الثقافة العراقية اليوم هي في الواقع أمام
مفترق طرق وينبغي أن تمتاز بأنها تفتش عن الخبر الطازج لتقدمه إلى
جمهور القراء وبكل إشارة إلى صحته.
إن الرأي العام العراقي أولاً ويليه الرأي العام العربي ينبغي أن لا
ينسى حادثة ما شهده المؤتمر (22) للاتحاد العام للكتاب والأدباء العرب
الذي انعقد في الجزائر قبل أشهر خلت حين تم منع وفد المثقفين العراقيين
من المشاركة في جلسات المؤتمر بحجة تافهة مفادها أن مؤتمر العراقيين لم
يعقد بعد منذ تغيير النظام في حين أن السبب الحقيقي كان ضمن ما كان من
أسباب تقف وراء ذلك المنع هو ضياع الإرادة لشعوب العربية اللامتمثلة
بكثير من الأحيان حتى في المؤتمرات السابقة فبعض البلدان العربية سواء
كانت لها حكومات أم لا بما في ذلك الحكومات التي تجري فيها مؤتمرات
وانتخابات مزيفة لمثقفيها حيث يختاروا من هم موالون لبعض السلطات
العربية المشبوهة ولكن اعتراضاً من أي دورة سابقة لهذا المؤتمر الشكل
الذي لن (يحل ولا يربط) أي مشكلة ثقافية يتعرض لها المجتمع العربي في
عموم بلدانه أنها مؤتمرات للدعاية الاستهلاكية لكن شطارتهم مع
العراقيين قد حدثت، فعلى العراقيين أن يأخذوا الدرس ولا يقبلوا إلا أن
تكون الثقافة في العراق هي ثقافة حقة عادلة وغير وجلة وبذلك سيتم غلق
الطرق اللاثقافية حقاً في البلاد. |