المستقبل بكل ما فيه من تحديات سيأتي والرد عليه ليس سهلاً ليناً
كما ربما يتوقع، بل يتطلب جهداً فائقاً من قبل الأفراد والجماعات
والحكومات، وهذا الجهد يجب أن ينطلق من رؤية صحيحة ومن إرادة حازمة ومن
تفكير سديد ومن طاقة على التخطيط والتنظيم وعلى التقشف والتضحية، كما
يجب أن يتجسد بأجهزة صالحة، على مختلف المستويات، قادرة على أن تصوغ
الرؤى والأفكار خططاً ومناهج، وأن تترجم الخطط والمناهج إلى أعمال
ومنجزات في حقول الحياة المختلفة بترابط وتناسق وتفاعل إيجابي مبدع.
وهذا كله متوقف على تكون العقلية المستقبلية عقلية يقتضي أن يتصف
بها المفكرون والعاملون وأن تنساب في صفوف الحكم وفي طبقات الشعب، وأن
تغدو الحافز الدافع والضابط الموجه والطابع المميز لكل ما يرسم من خطط
وما يتخذ من قرارات، وما ينفذ من أعمال.
والعقلانية التي تتصف بها العقلية المستقبلية تقوم على ثلاثة أركان
أساسية:
الأول: الموضوعية والواقعية: أي أن ننظر إلى كل ما حولنا وما فينا،
كما هو بالذات، لا كما نتخيله أو كما نريده أن يكون، وهذا الأمر ليس
سهلاً لأن الإنسان مجموعة أوهام وأهواء وأماني وعقد، يرثها من أسلافه
أو يستمدها من بيئته أو يولدها لنفسه.
وضرورة الموضوعية والواقعية تشتد في زماننا هذا والزمن المقبل،
لتعقد المشكلات الحاضرة والمقبلة، وتفاقم الأخطار والأضرار التي تأتي
من جهلنا إياها على حقيقتها.
وأيضاً لأن وسائل الدعاية والإغراء قد ازدادت هذه الأيام اتساعاً
ونفوذاً وأثراً، وهي تدفع بنا غالباً، بطرق فعالة ظاهرة وخفية، إلى
رؤية الأشياء كما يصورها أصحابها لا كما هي في الأصل والواقع.
الثاني: الانتهاج العلمي: وأساسه بدءاً وعوداً على الإقبال على
دراسة الواقع بالأسلوب النقدي الاختباري المنتظم الذي أفاده العقل
بجهاده العسير المديد خلال الأجيال، والذي يتمثل بالعلم نهجاً وحصيلة،
فهو النهج العلمي في الملاحظة والنقد والاختبار والتحليل والتركيب،
النهج الذي ينفر من الخطأ وينزع إلى الحقيقة ويجهد لالتزامها وهو النهج
الذي غدا شرطاً من شروط الحياة السديدة، الجديرة بالبقاء والعطاء.
الثالث: الالتزام الخلقي: هذا الالتزام العقلانية الأصيلة كالسعي
إلى الحقيقة والتزامها، واعتزام الفوز بها ونصرتها، ومجاهدة النفس
للتحرر من كل ما يفسدها، وأمثال هذه هي أيضاً مواقف خلقية أدبية.
ولا يمكن الفصل بين العقلانية والنزاهة الخلقية: أولاً: لأنه لا
يمكننا القول بأن التقدم العلمي تقدم سلمي في جملته، لمكانة الواقع في
غير ذلك، إذ التقدم العلمي منصَبّ على الطبيعة أكثر مما هو متجه
للإنسان فترى العالم حينما يفقد سيطرته على أهوائه وشهواته يدمر العالم
ونفسه.
ثانياً: لأن العلم على قدره وخطورته، ليس المظهر الوحيد أو المظهر
الكامل للعقلانية المرجوة، فهو - ولاسيما وجهه التطبيقي السائد في هذه
الأيام – يعني أكثر ما يُعنى بالوسائل، ويكاد لا يهتم بالغايات، أما
العقلانية المتفتحة المكتملة فهي تقبل على الغايات أيضاً، بل إنها تقبل
عليها أكثر مما تقبل على الوسائل وتعمل فيها إيضاحاً وتحديداً.
فالخلاصة: أن العقلانية إنما تصح وتكتمل عندما تصبح خُلُقاً.
وبذلك ستكون في المستقبل لا مصدر الإبداع فحسب، بل قوام البقاء
والتقدم.
ومستقبل العراق لا يبنيه سوى أبنائه وشعبه فلا بد من الواقعية
والموضوعية في النظرة المستقبلية لواقع العراق والبدء بالعمل والجهد
العلمي وسلوك النهج العلمي بالبحث والنقد والتفاعل والحركة وتقارب
الوجهات وتلاقح الوئام بين أفراد الشعب مع الالتزام الخلقي بين القادة
والشعب وبناء عراق المستقبل دون الانتظار من الغريب أو المستعمر في أن
يمد يد المساعدة أو البناء ورفع هذه الأوهام السادية من الأذهان
فالمستعمر ليس من مصلحته استقرار البلاد وقوة شوكته. |