اتسمت نبرة نظام حكم انقلاب 17 تموز 1968م منذ الأيام الأولى بادعاء
الوطنية تارة والقومية في أخرى لكن مثل هذه الشعارات كانت تترجم على
الأرض بشكل متناقض وعكسي حتى تنامى شعور سياسي عراقي طاغ في النفوس
الخيرة بأن توجهات الانقلاب الجديد ليست أكثر مما كان قد اقترفه الفريق
السياسي الذي قاد انقلاب 8 شباط 1963م من جرائم قتل وسجون واعتداء على
الأعراض وفرض الاتاوات والتجاوزات الأخرى التي جرت على العراق كـ(وطن)
والعراقيون كـ(مجتمع).
لقد رفع نظام انقلاب 1968م شعارات كان التهديد للشعب يحوي إشاراتها
ومقاصدها فيها ضمناً بما لا يقبل شك فقد قالوا بشعار – أن حزب السلطة
ولد وهو يحمل سر قوته – والناس بعد أن كسبوا معرفة هوية الانقلابيين
كـ(أشخاص منبوذين) ينحدون من حثالة المجتمع العراقي قد قدروا ذلك
الشعار – الإنذار الذي يقصد منه أن عصابة الانقلاب ستقوم بمحاربة
التيار الوطني في العراق ومعه التيار القومي أيضاً اللامشبوه إينما
وجدا بيد أن التنكيل بكل الشخصيات الوطنية والتحررية والإسلامية أيضاً
بدأ يأخذ مداه الإجرامي من قبل الفريق السياسي الإرهابي الذي كان يعمل
بوحي منفذين أواخر قادة الانقلاب المشبوهين سياسياً وأخلاقياً بصفتهم
كـ(جواسيس للاستعمار) من أمثال أحمد حسن البكر وصدام التكريتي وناظم
كزاز وصالح مهدي عماش وغيرهم ممن كانت أسماؤهم مدعاة للعن والشتيمة من
قبل الشعب العراقي.
ولعل ما جرى في العراق سيتحمل مسؤولية كل الجرائم التي وقعت على
ناسه هم هؤلاء الذين رخصوا كل غالٍ بين نفوس العراقيين الذين أنساهم
النظام بجرائمه المتوالية أن بلدهم من الناحية الحضارية هو أعرق بلدان
العالم حضارية كما ركنوا حقيقة أن الله سبحانه وتعالى الذي أنعم عليهم
بخيرات بلدهم حرّم على الشعب الاستمتاع بها والتي كانت محل اعتراف ولمس
عند الرأي العام العالمي، فالجميع كانوا يتطلعون إلى معجزة إنفاذ لهم
بوقت كان النظام يقدم إرهابه العشوائي وبوحشية حتى ضد أناس لم يكونوا
سياسيين لدرجة بات أبناء المجتمع العراقي يدركون أنهم قد أصبحوا تحت
كماشة عشوائية اختيار النظام لضحاياه ممن يستهدف قلتهم لأجل ترهيب
المواطنين العاديين الآخرين تحسباً من أن يقرروا أن تكون وجهتهم ممارسة
النشاطات السياسية ضد النظام وأركانه وفريقه السياسي الحاكم بقوة
الحديد والنار.
بيد أن الظلم عبر إلقاء القبض والاغتيال العلني في وضح النهار أخذ
يطبق أولاً في أطراف العاصمة بغداد ففي شارع فلسطين كان منظر شخص ميت
وآثار الدماء عليه وقد جعلوه مضطجعاً على حافة الشارع من الجهة القريبة
من الجامعة المستنصرية منظراً مكرراً وحدث مثل هذا في شارع قناة الجيش
ومناطق أخرى ببغداد وكانت تعليمات النظام واضحة في الإبقاء على جثامين
المغدور بهم على الأرض حتى ساعات الظهر كي يرى أكبر عدد من الناس
وبالذات شرائح الموظفون والعاملون أثناء ذهابهم الصباحي للعمل لمشاهدة
تلك المشاهد المرعبة حتى يصيبهم الخوف.
أما بالنسبة لأولئك السياسيين أو الذين يحتمل أن يكونوا سياسيين
فالنظام كان يجلب نسائهم وبناتهم وأخواتهم إلى زنزانات السجون ويهدد
باغتصابهن في حال عدم اعتراف السجناء السياسيين على بعض أو كل
المعلومات الاستخبارية التي تؤدي إلى إلقاء القبض السريع على من هم
مازالوا طليقي السراح ويعملون في السر كـ(معارضين).
لقد ملأت السجون بالناس الأبرياء ولم تعد كافية للأعداد الهائلة
منهم فأضطر النظام إلى فتح (فتح سجن نقرة السلمان) ثانية الواقع في
صحراء الغربية الذي سبق وأغلقه شكلياً كنوع من الدعاية منذ الأيام
الأولى لانقلاب 1968م كما أعيد فتح سجن (قصر النهاية) ببغداد الذي سبق
وأن استعمله نظام انقلاب 1963م ضد الشعب العراقي أكثر مما كان مقرراً
أن يكون ضد القوى السياسية التي اعتبرها معارضة لانقلابه المشؤوم كما
تم فتح سجون سرية عديدة أخرى لم تكتشف كلها حتى الآن.
وفي مقر (القصر الجمهوري) الذي تدار منه قيادة البلاد كان أحمد حسن
البكر ونائبه صدام التكريتي قد أشرفا على بناء حوض مليء بحامض الأسيد
المذيب للحديد وقد استعمل لإسدال الستار على حياة الكثيرين ممن كانوا
صامدون على مبادئهم الوطنية وعدم التنازل لإرهاب وحوش الدولة الجديدة
التي أخذت تسوق الناس إلى أنواع من الموت ولما كانت أعداد هائلة من
شهداء الشعب والوطن تذهب حياتهم هدراً دون تقديمهم إلى أي محكمة شرعية
حيث هيئة الدفاع والمحامون فقد ابتكر النظام مع أسياده من أعداء شعب
العراق موضوع التخلص من الضحايا عن طريق دفنهم بـ(مقابر جماعية) ودون
إعلام ذويهم بما آلوا إليه من مصير مؤلم وبذا يعتبر اكتشاف المقابر
الجماعية منذ سقوط نظام صدام وفريق حكمه الإرهابي قد جاء متأخراً بعض
الشيء لكن أهميته ينبغي أن لا تخلو من مزيد من المتابعة.
ويبقى الذنب الأكبر الممكن إثارته موضوعياً أن دولة انقلاب 1968 م
الوحشي قد أخذت وعلى حين غرة مجاميع من الأفراد غير الأسوياء سواء من
كان منهم قد عرف بذلك من ترو في خلقه أو سواء من كان مستعد لأجل ضمان
تدفق لامتياز ما لصالحه الشخصي أن أصبح أداة مشاركة في تقوية الحكم
وإجرامه فقد اشترك كل هؤلاء في بيعة ضمائرهم ضد كل ما هو حق للشعب
العراقي لقاء ثمن بخس. |