
صباحات كربلاء لا تختلف كثيراً عن مساءاتها منذ أن بدأت المواجهات
المسلحة بين المتقاتلين فيها رغماً عن أنوف سكانها، قنابل المساء
والرصاص المتطاير فيه يسلمهم لصواريخ الطائرات ورشقات الرشاشات الثقيلة
التي تلقي عليهم تحية من نوع خاص..
الدبابات الأمريكية تجوب الشوارع الرئيسة فيها مراهنة على عامل
الزمن.. أراد قادة المعركة أن يصلوا إلى أهدافهم بهدوء ودون ضجة وربما
(دون دمار) حسبما صرحوا مرارا قبل اشتداد المعارك، ولكن الاستمرار في
اللعبة المميتة هذه ألحق أضرارا واسعة بالمدينة المقدسة التي هجرها
أهلها مرغمين..
سوق كربلاء هو المسرح اليومي لمعارك جيش مقتدى الصدر وقوات الاحتلال..
هؤلاء يتخندقون في شوارعه الضيقة ويطلقون النار على الأمريكان من بين
محلاته ، وأولئك يردون بالمثل فتندلع النيران من وقت لآخر، ليماثلها
احتراق آخر في قلوب أصحاب المحلات الذين كانوا يعتاشون ويترزقون على ما
يبيعونه للناس في الأسواق، وحين تتوقف الحركة في السوق، يتوقف معها دخل
يعيش عليه مئات الأشخاص..
هذا التدهور واحتراق العديد من محلات الباعة والتجار في كربلاء،
بالإضافة إلى تعرض محلات أخرى للسرقة أرغم الكثيرين من أصحاب السوق على
المجازفة بأرواحهم كي ينقلوا بضائعهم إلى أماكن آمنة، ولكن بعضهم فقد
حياته جراء مجازفته الخطيرة هذه..
دماء كربلاء ما زالت تنزف، وجثث بعض القتلى بقيت في الشوارع لعدة
أيام بينما جثث أنصار السيد مقتدى الصدر الذين لا يفصحون حقيقة عن عدد
قتلاهم تجد طريقها إلى مقابرهم بصمت. ولكن آثار الموت تنتشر كآثار
الخراب، فلا أحد يستطيع محو الحقيقة، وما يجري في كربلاء من موت ودمار
حقيقة رأتها كل الأعين إلا تلك التي لا تريد أن تبصر ولا تريد أن
تتفاعل..
السكان هم المتضرر الأول.. يتذمرون ويعلنون رفضهم في السيارة وفي
الشارع وفي كل مكان يتواجدون فيه، ولكنهم يخشون رفع أصواتهم، فلاصوت
أعلى من صوت الرصاص حين يقرر المتحاربون إدامة المعركة ..
في اليومين الماضيين لجأت قوات الاحتلال إلى استخدام القنابل
العنقودية فقتلت تسعة أشخاص من مقاتلي جيش المهدي وجرحت أكثر من عشرين
آخرين، القنابل هذه محرمة دولياً لأنها تقتل أهدافها بالعشرات، ولكنها
معركة غير متكافئة منذ البدء، فرشاشات الشباب في جيش المهدي وصواريخ
قاذفاتهم لم تتمكن من إيقاف آلة الحرب الأمريكية عند مشارف كربلاء..
الأمريكان يبررون لجوءهم لهذه المسلحة بالقول أنهم لا يريدون إلحاق
دمار كبير بالمدينة، فضلاً عن أن قنابل من هذا النوع تلقى بالعشرات
ويمكن أن تدخل إلى الأزقة الضيقة التي يتحصن فيها المقاتلون .. وربما
أضاف الأمريكان سببا آخر بالقول أن مركز المدينة قد أخلي من قبل ساكنيه
ولم يبق إلا أنصار السيد الصدر وهم محاربون!..
المراقد المقدسة التي يؤمها آلاف الأشخاص كل أسبوع قبل أكثر من
شهرين، والتي تعتبر خطوطاً حمراء، لم يحترمها أحد ولم يحفظ قدسيتها
المتحاربون، فصارت هدفاً لنيران من هنا وهناك، طالما أنها في وسط
المدينة.. القصف العشوائي الذي استهدف منطقة باب قبلة الإمام الحسين
(ع) ألحق ضررا ملحوظاً بالجدار الخارجي للصحن الشريف.
أنصار السيد مقتدى الصدر يعيشون وضعاً صعباً سيما فيما يتعلق
بجرحاهم، فالقوات المحتلة طاردت هؤلاء وسعت إلى إلقاء القبض عليهم بعد
دخلوهم المستشفيات، الأمر الذي حمل بعض العاملين في مستشفيات كربلاء
إلى تغيير أسماء جرحى جيش المهدي وإعطاء معلومات أخرى لتغيير هويتهم
وأماكن إصاباتهم..
هيئة علماء المسلمين أرسلت قافلة للمساعدات أوقفها عراقيون معترضون
في باب بغداد ومنعوها من الدخول.. حدث شجار بين الطرفين لأن أصحاب
القافلة يصرون على دخولها بحجة أنها مواد إغاثة طبية وإنسانية،
والمعترضون يتهمونهم بمحاولة نقل المعركة من الفلوجة إلى المدن
الشيعية..وربما صدق حدسهم حين فتشوا القافلة التي حملة أسلحة وعتادا
لأنصار السيد الصدر..الأمر الذي يحمل أكثر من علامة استفهام، فهل هناك
تنسيق بين السيد مقتدى الصدر وهيئة علماء المسلمين لتصعيد الصراع في
العراق، وهل كان هذا التنسيق قبل اندلاع الأزمة التي اشتعلت في وقت لا
يلائم الشيعة على الإطلاق أم أنه تنسيق جاء بعد المعركة؟؟
العراقيون في كربلاء ينظرون بشك لسيارات الاغاثة هذه، سيما وان
التصعيد في كربلاء والنجف جاء في وقت حساس وخطير يهدد المصالح الشيعية
السياسية كلما اقترب موعد نقل السلطة وتشكيل الحكومة المؤقتة.












 |