أحيا
أكثر من مليون شخص من العراقيين أربعينية الإمام الحسين في كربلاء
وسط إجراءات أمنية مشددة قامت بها هذه المرة مفارز من الأحزاب
والحركات السياسية بعد أن غادرت الشرطة العراقية مواقعها في وقت سابق
من الأسبوع المنصرم إثر المصادمات التي جرت بين أنصار السيد مقتدى
الصدر وقوات التحالف في كربلاء، وسارت مواكب الزائرين بهدوء بين
الحرمين بينما ردد الزوار هتافات وأهازيج عكست استعداداتهم للموت على
أن يتخلوا عن ولائهم وحبهم للإمام الحسين.
وقد استذكر العراقيون في كربلاء شهداء العاشر
من محرم الماضي الذين سقطوا بالمئات على يد إرهابيين قاموا بعمليات
انتحارية وسط حشود الزائرين .
السيد مصطفى الحسناوي من أهالي الديوانية كان
قريباً من مكان أحد الانفجارات التي وقعت في العاشر من محرم ولكنه
عاد في الأربعين لأنه يريد أن يجدد بيعته مع الإمام الحسين حسبما قال:
( أحد الإرهابيين الذين فجروا أنفسهم في العاشر من محرم كان قريباً
مني، رأيت كيف تلاشت بعض الأجساد وكيف احترقت أجساد أخرى ولكن ذلك لن
يخيفني لأنني بايعت الإمام الحسين على أن أسير على نهجه).
مواطن عراقي آخر تحدث عن إحياء الأربعين قائلاً:
( هذا العدد من الزائرين قليل مقارنة بذكرى الأربعين من السنة
الماضية، وحتى مقارنة بعدد الزوار في العاشر من محرم.. ليس ذلك بسبب
الخوف من الأعمال الإرهابية، لقد كنت هنا قبل أيام ورأيت عدد
الوافدين مشيا على الأقدام كانوا بالآلاف ، ولكنهم اضطروا للعودة إلى
مدنهم ومناطقهم بسبب الخشية من تجدد الاشتباكات بين جيش المهدي وقوات
التحالف).
من
ناحية أخرى تزداد المخاوف في أوساط العراقيين من تكرار ما حصل في
الفلوجة في مدن عراقية أخرى لا سيما تلك التي يسيطر عليها جيش المهدي
كالنجف وكربلاء، حيث أعلنت سلطات التحالف في وقت سابق أنها لا تستبعد
خياراً عسكرياً بعد الأربعين ضد تيار السيد مقتدى الصدر الذي اتهمته
بالخروج على القانون ووجهت له تهمة قتل رجل الدين الشيعي آية الله
السيد مجيد الخوئي، الذي اغتيل بعيد سقوط نظام صدام من العام الماضي
واتهم تيار الصدر بالوقوف وراء عملية الاغتيال تلك.
وعلى خلفية هذه المخاوف وبعد تصعيد خطير بين
جيش المهدي وبين قوات التحالف توجه وفد يمثل بعض الأحزاب في مجلس
الحكم للقاء السيد مقتدى الصدر في النجف حاملين معهم مبادرة لحل
الأزمة تتلخص بحل جيش المهدي وابتعاد السيد مقتدى الصدر عن تحريك
الشارع العراقي ضد قوات التحالف، وربما طالبت أمريكا من بعض الأحزاب
السياسية كحزب الدعوة والمجلس الأعلى ومن بعض مراجع الدين سيما السيد
علي السيستاني بضمان أي اتفاق يحصل بينها وبين السيد الصدر، أو
بعبارة أخرى طلبت من تلك الأحزاب ومن المرجعية أن تضمن التزام السيد
مقتدى بما يتم الاتفاق عليه.
هذه الشروط وافق عليها السيد مقتدى حسب بعض
الأنباء التي تسربت من مصادر في النجف ولكنه اشترط أيضا ابتعاد
القوات الدولية عن مدينة النجف، وربما طالب بضمانات بعدم عودة تلك
القوات لملاحقته.
وقد خفف من حدة الأزمة بعض الشيء تنازل عائلة
السيد مجيد الخوئي عن حقها بالمطالبة بدم فقيدها، الأمر الذي يسقط
حجة قوية ضد السيد مقتدى الصدر كانت بيد الولايات المتحدة.
جدير ذكره أن إدارة التحالف كانت قد توعدت
السيد مقتدى وجيشه بضربة قوية بعد مراسم الأربعين ولم تستجب لمطالب
الكتلة الشيعية في مجلس الحكم إلا بعد سلسلة من الاحتجاجات التي صدرت
من أعضاء عديدين في هذا المجلس حيث علق بعضهم عضويته فيه بينما هدد
آخرون بتعليق عضويتهم أيضاً، وبعد الصعوبات التي واجهتها القوات
الأمريكية في الفلوجة، والتي اعترف بها معاون القائد الأمريكي (كيميث)
قائلاً: ( نحن نواجه مجموعات مدربة تدريباً جيداً.. إنهم من فدائيي
صدام وبقايا النظام السابق).
هذه الظروف الصعبة حملت إدارة القوات
الأمريكية في العراق على الاتصال بواشنطن ومن ثم أضافت بعض
الشروط على المبادرة الشيعية بشأن السيد مقتدى الصدر.
ولكن وعلى الرغم من مرور يوم ونصف على زيارة
وفد المبادرة ذاك غير أن تصريحاً رسمياً لم يصدر عن أي طرف يبين ما
جرى خلف الغرف المغلقة.
يمتاز رجل الدين الشيعي الشاب مقتدى الصدر في
الوسط العراقي بميزات تتعلق بماضيه العائلي أكثر من تعلقها بحاضره
كشخص فهو من عائلة الصدر التي سطع فيها نجم السيد الشهيد محمد باقر
الصدر، وهو ابن السيد الشهيد محمد صادق الصدر الذي قاد حركة تغييرية
ذكية ضد نظام صدام في السنوات الأخيرة قبل سقوطه.
هذا البريق العائلي في العراق يضاهيه بريق آخر
للعائلة في لبنان كلما ذكر السيد موسى الصدر.
لقد استغل السيد مقتدى الصدر إرثه العائلي هذا
بصورة جيدة إلى حد ما حيث شكل تياراً صدرياً عريضاً في الساحة
السياسية العراقية، ثم أسس جيشاً أسماه جيش المهدي ودرج على إلقاء
خطبة الجمعة في مسجد الكوفة إحياءً لما درج عليه والده في زمن مضى
ولكن قيادة تيار عريض في ساحة متشنجة ومتناقضة حد التناحر في أكثر
الأحيان ليست بالأمر اليسير، فما أن صعد السيد الصدر من خطابه ضد
قوات التحالف حتى برزت المشاكل إلى السطح، إذ ليس كل أتباعه يقدرون
أن تصعيد الخطاب لا يعني بالضرورة تصعيداً في السلوك والممارسة وحدثت
صدامات عديدة هنا وهناك بين أنصاره وبين قوات التحالف، كما أن جيش
المهدي الذي شكل في ظروف استثنائية لا يمكن الاطمئنان إلى أن جميع
أفراده هم من الصدريين حقاً، فقد اعترف السيد مقتدى الصدر نفسه وأشار
بعض وكلائه إلى أنهم ربما يعانون من الاختراق..
الاختراق هنا لا يعني بالضرورة أن يكون سياسياً،
فربما يكون فكرياً وثقافياً وهدفياً، حيث وجد بعض الأفراد في جيش
المهدي فرصة كبيرة لتحقيق أغراضهم الشخصية طالما أن هذا الجيش يميل
إلى التصعيد الذي ينتهي إلى مواجهات تختلط فيها الأغراض والأهداف
والغايات فيسهل بالتالي تحقيق الأغراض الشخصية وإن كانت غير مشروعة
وسط ادعاءات بأن ما يقوم به أولئك هو ضمن نشاط مقبول لجيش المهدي!
لقد استولى مجموعة من الأشخاص على أسلحة
الدفاع المدني في بعض المدن بحجة أنهم من أنصار الصدر ولكن تلك
الأسلحة لم تصل إلى أي من مكاتبه على الإطلاق!
يمكن القول إذن أن جيش المهدي يفتقر إلى
التنظيم والمركزية في القرار، وربما كشفت المواجهات في مدينة الصدر
والكوت، أن هذا الجيش لا يصمد طويلاً في المواجهات المسلحة ولا يقوى
أفراده إلا على تهديد القوات المعادية بقذائف المورتر والآر بي جي
ومن مسافات لاتسمح بالمواجهة، لذا فإن تعويل السيد مقتدى الصدر على
هذا الجيش يعد أمراً في غير صالحه، بل لعل القول بأن جيش المهدي هو
يافطة إعلامية عريضة أكثر منه واقع على أرض المواجهة هو قول يحمل
نسبة كبيرة من الصحة، فمن غير المستبعد إذن أن يكون السيد مقتدى
الصدر قد أفاد من التصعيد الأخير وراجع حساباته بدقة، وربما سيقبل حل
جيش المهدي طالما أن هذا الجيش بالمواصفات التي سبقت.
هذه الخطوة قد تخسر السيد مقتدى حيزاً كبيرا
من التأييد لا سيما بين الانفعاليين ولكنها ستقربه أكثر من الحوزة
العلمية في النجف الأشرف والسيد السيستاني تحديداً،ومن التيار الشيعي
المعتدل، فالذين توسطوا لإنهاء الأزمة سيمنحون السيد الصدر فرصة
للتفكير بالعواقب وإعادة ترتيب مواقفه من رجال وقفوا إلى جانبه في
وقت عصيب.
|