تكمن أهمية اختيار النهج الديمقراطي لحكم العراق
بشمولية التأثير على مجمل الأوضاع العراقية التي يمكن أن تكون عصب
البلاد الذي بدونه سيخسر كل العراقيين حتى أي معنى لوجودهم المعنوي
ولكن كيف يمكن تخيل الصورة الديمقراطية التي توحد المجتمع العراقي
برمته على طريق سياسي سوي لا استئثار فيه لأحد غير المؤهل بالكفاءة
والإخلاص للشعب والوطن؟
بدايةً، تتواصل التوجهات السياسية العراقية
الحالية إلى نبذ انتهاج العنف لحل مشاكل البلاد سواء منها الداخلية..
أم الخارجية بعد أن تيقن الجميع إلى ضرورة الارتفاع بمستوى التفكير بأن
الأخطار المحيطة بمستقبل العراق ليست قليلة.. وإذا ما تمت العودة قليلاً
إلى تاريخ العراق المعاصر لاستكان العقل إلى أن ممارسات القوة السلبية
وبالذات العسكرية لا تؤدي إلا لمزيد من قتل الأنفس وخراب مرافق الحياة..
فقد ولت سياسات (الأرض المحروقة) وبات العالم اليوم غير بعيد عن معرفة
مسببي أزماته ومعرفة جهاتها ولأجل أن يكون هناك إنهاض للأوضاع فينبغي
أن تبدأ أول خطوة بهذا المجال نحو إجراء إصلاح سياسي عام تفيد إلى
اختيار حرية الشعب في الوصول إلى تحقيق حكم ديمقراطي يراعى فيه ضمان
منح الحقوق المدنية والدستورية الكاملة لمواطني العراق دون أي تمييز
معلن أو مبطن.
فإذا كان التعامل مع جرائم العهد الصدامي البائد
هو من مهام الحكم الجديد بالعراق الذي سيستلم مسؤولية إدارة الدولة
بصورة دائمة قريباً فإن الموضوعية تقضي أن يكون شكل التعامل الآنف
قانونياً مأئة بالمائة (100%) مع كل حالة إذ من المعروف أن إصدار
العقوبات القانونية بحق أي مخالف أو معتد أثيم من أزلام النظام السابق
مسألة لا تترك أثاراً من الأحقاد عند أهل السجين أو المخالف أو القاتل
في حال عقابهم لأن الحق سيكون قد حدده القانون وبذاك سوف تقل مساحة
تصفية الحسابات الشخصية إلى أدنى حد.
والمطالبة بحكم ينطلق من نقطة الشرعية من خلال
عملية انتخاباً شعبية عامة سيمنح الحكومة العراقية الجديدة فرصة
تاريخية سيسد منها ليس الفراغ السياسي في العراق بل سيكون بذلك مانعاً
لتوسع أي ثغرة بالحياة السياسية العراقية ممكن أن تؤدي إلى خراب البلد
مرة أخرى إلا أن هذا لا يعني أن لا يكون النقل السريع لسلطة عراقية
وطنية مؤجل إلى أجل بعيد وإن كان مسمى.
والعراق اليوم رغم توالي الأحداث عليه إلا أن
هناك إقراراً من كون العراق اليوم هو من أكثر الحكومات ديمقراطية من
المنطقين العربية والإسلامية قياساً لبلدان منطقة الشرق الأوسط ومع هذا
فإن نسبة هذه الديمقراطية رغم صدور زهاء (160) صحيفة الآن داخل العراق
لكنها نسبة تبشر بحرية انتشار الرأي ويبدو أن الإدراتين الأجنبيتين
الحاكمتين فعلياً بالوقت الحاضر للعراق (بريطانيا وأمريكا) يدركان ذلك
تماماً فقد صرح مؤخراً رئيس الإدارة المدنية الأمريكية في العراق (بول
بريمر) بـ(أن الطريق إلى الديمقراطية في العراق لن يكون سهلاً) وعلى
اعتبار أن العراقيين الراغبين في الديمقراطية شيء والواقع السياسي
الراهن شيء آخر.
ولكن مطلب نقل السلطة إلى العراقيين عبر إجراء
انتخابات عامة في جميع أنحاء العراق ما يزال (بين أخذ ورد) وربما تدخلت
هيئة الأمم المتحدة التي تراقب رد الموقف داخل العراق عن كثب لتأييد
أفضل خطوة سياسية يتخذ بهذا الشأن لضمان الخطوة الديمقراطية الأولى
والمطلوبة في عملية الاقتراع لانتخاب الشخص المناسب أو الأشخاص
المناسبين الممكن أن يشكلوا الفريق الدستوري لإدارة شؤون البلاد ضمن
دولة القانون وبهذا الصدد يمكن الإشارة إلى أن تجربة أهل بغداد
الانتخابية الأولية قد نجحت قبل فترة حين تم إجراء اقتراع حر لانتخاب
مخاتير في أحد أحياء العاصمة العراقية للمرة الأولى.
بديهي جداً أن الديمقراطية النسبية وغير الكاملة
المتحققة الآن للعراق رغم مرحلته الانتقالية وبما لتلك النسبة من ضآلة
كـ(تمهيد للديمقراطية الكاملة) بسبب غياب المؤسسات الديمقراطية بالبلاد
إلا أن النفس.. الديمقراطية في طريقة تعامل مجلس الحكم الانتقالي يشير
لذلك فمثلاً بعد أن اغتيلت عضوة المجلس السابقة عقيلة الهاشمي أختار
المجلس الطبيبة سلامة الحجازي خلفاً لإشغال منصبها الدبلوماسي الآنف عن
طريق استحصال موافقة غالبية أعضاء المجلس وعلى اعتبار أن (الديمقراطية)
بالعراق هي من الأحلام التي كان ترواد الجماهير المحلية المعتقدة
باستحالة الظفر بها نتيجة لـ(قساوة القمع العشوائي) الذي استند إليه
النظام الصدامي الإرهابي بكل تعاملاته مع المجتمع العراقي. لذا فإن
هلامية التصور يكاد يحملها أكثر العراقيين عن ماهية الديمقراطية الأفضل
التي تلائم بلداً كان كل شيء فيه مقموعاً حتى خيراته كانت من حصة
السلطة الصدامية وفريقها السياسي المشبوه وأتباعه أعداء العراق من
مرتزقة الأعراب المزيفين المنتشرين في بلدان عربية وغير عربية، والواقع
أن على العراقيين تعلم الديمقراطية الحقة قبل أن تطبق على الأرض فهي
أفضل خيار يمكن الاعتماد عليه في إزالة العديد من أجواء عدم الثقة بين
السياسيين العراقيين من جهة وبين عموم الشعب وسلطته الجديدة المنتخبة
قريباً في جهة أخرى.
فبالديمقراطية والحكم الديمقراطي سيمكن
للعراقيين فرض وجهة نظرهم وتحديد شأن مستقبلهم السياسي في الاستقلال
الحقيقي والسيادة الحقيقية وانتزاعهما سلمياً من سيطرة الدولتين (بريطانيا
وأمريكا) المحتلين إذا صاحب توجههما الجاد بالاتفاقات أن يتركوا العراق
لأهله ويقيموا مع سلطاته القادمة نوع من الاتفاقات التي لا تتعارض (لا
من قريب أو بعيد) مع (ذلك الاستقلال) وتلك السيادة هذا أمر يصعب تخيل
تحقيقه لكن تصريحات الإدارتين في لندن وواشنطن مازالتا تؤكدان أن لا
أطماع لهما في العراق وهذا ما يتضارب مع تصريحات سابقة صدرت من
العاصمتين الآنفتين والقائلة بأن لهما مصالح كبرى بالعراق وعلى أي حال
فإن لتحقيق الديمقراطية في العراق قوة متناهية للعراقيين إذ ستضع قوتا
الاحتلال الآنفيتين أمام المحك لإثبات خروجهما من العراق وعدم ترك أي
أثر لاختراقهما لأي حكومة قادمة تدير شؤون العراق.. حكومة تتعامل مع
حكومتي بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية كحكومتان ممكن أن تكونا
من أصدقاء العراق إذا أرادتا ذلك والأشهر القادمة ستكشف حسن أو سوء
النوايا بصورة مؤكدة.
|