إن إلقاء نظرة حيادية على الهوية السلوكية لصدام
ذاته عصابة حكمه الذين امتازوا بروح مغامرة استسخروا فيها كل ما كان
يمكن بناؤه في البلاد إذ كان هؤلاء النفر يعانون من إفلاس معنوي أمام
المجتمع العراقي الشديد التمسك بالأخلاق الحميدة، لذلك فحين قرر أعضاء
الحكم البائد اقتحام الحياة السياسية بالعراق دون سابق إنذار فقد كان
واضحاً أنهم يفتقرون لعنصر.. (السوية).
وإذ أطلع الرأي العام العراقي على أسماء الأشخاص
الذين أيدوا انقلاب 1968م لهم مناصب حساسة ورفيعة في دولة الانقلاب فقد
كانت هناك صدمة اجتماعية عامة ظاهرة جداً بين الأناس العراقيين بسبب
كون الانقلابيين على وجه العموم والتابعين منهم لكتلة (أحمد حسن البكر)
ممن ينبذهم المجتمع العراقي فـ(البكر) الذي أصبح رئيساً للجمهورية كان
قد أعلن عن براءته عن التنظيم السياسي الذي كان يترأسه أثناء حقبة
الحكم في 8 شباط وحتى 17 تشرين الثاني من سنة 1963م ونشر إعلان براءته
في الصحف المحلية وأعرب عن انصرافه عن العمل السياسي والى الأبد وتعهد
بأنه سوف لن يكون أكثر من تاجر لإنتاج (الجواريب) لكن تلك الحيلة
السياسية التي دلت على (جبن) البكر في ظرف سياسي حرج أمام حكم عبد
السلام عارف بعيد أيام من حركة 18 تشرين الثاني 1963م لم يستحي (البكر)
من تنازله المخزي ذاك متناسياً أن ذاكرة العراقيين غير قابلة لأن تصاب
بالنسيان فعاد إلى رأس السلطة في انقلاب 1968م بدلاً من أن يحترم كلمته
ذاته ويبقى صاحب معمل جواريب.
أما (صدام التكريتي) الذي بدأ اسمه يأخذ مسار
دبيب الأفعى في الحكم الجديد فكان معروفاً بأنه قد أصبح مخبراً صغيراً
لصالح مديرية الأمن العامة ببغداد بعد حركة 18 تشرين الآنفة وأخذ ينكل
برفاق الفريق السياسي الذي كان ينتمي إليه. لكن فرحة غض النظر عن
الخيانات المخزية لدى الفريق السياسي الذي كان ينتمي إليه صدام قد
ساعدته أن يستلم هو الآخر بمنصب الشخص الثاني في حكومة الانقلاب الجديد
آنذاك ويبدو أن قضية إحالة صدام إلى السجن مع عدد من الفريق السياسي
الذين كانوا فيه معاً ووصول خبر السلطة حركة تشرين الثاني الآنفة التي
كانت تقود الحكم من أن لعدد منهم لقلب نظام الحكم العارفي قد جعلت
التحقيق مع أي أعضاء الفريق المذكور هو إجراء احترازي بعد أن عرف (عارف)
أن من تعاون مع أجهزة مخابراته من (فريق البكر) المدحور يعتبرون من عرف
ذلك الفريق متمتعون بحق استمرار العضوية وان الخيانة ليست مبرراً لطرد
أي عضو خائن من ذاك الفريق وتلك هي قصة إلقاء القبض على صدام مع مجموعة
من أعضاء الفريق السياسي للبكر وهذا ما يفسر تماماً أن عقوبة السجن
لصدام لم تكن لصلابة موقف أبداه ضد سلطة 18 تشرين بل هو استمرار
اعتباره عضواً في (فريق البكر) بحسب ما هو واقع على الأرض بيد أن ذلك
الفريق لو كانت له مبادئ سياسية سوية فكيف سمح لشخص مثل (البكر) الذي
تبرأ ونبذ تنظيمه السياسي بإعلان رسمي أن يكون على رأس ذلك الفريق بعد
مرور 5 سنوات أي منذ تنازله المنشور في الصحف العراقية سنة 1963 وحتى
وصوله مجدداً إلى دست الحكم سنة 1968م.
وأن مرور أسبوعين على انقلاب 1968م كانت كافية
ليبرهن الفريق السياسي لكتلة (البكر – صدام) أنهم أهل غدر عشوائي حتى
بمن أسدى لهم فضل توصيلهم إلى دست الحكم حيث كان المشرف الأول على
تنفيذ انقلاب 1968م (عبد الرزاق النايف) رئيس الاستخبارات العسكرية في
عهد الرئيس عبد الرحمن عارف لكن كل من البكر وصدام قد تآمرا عليه
فألقوا القبض عليه أثناء مأدبة غداء في القصر الجمهوري ببغداد واقتيد
بقوة السلاح إلى طائرة بمطار المثنى ببغداد لتنقله سفيراً إلى ليبيا
وحين رفض ذاك المنصب بعد أن شغل منصب رئاسته للوزارة العراقية في
التشكيلة الوزارية للانقلاب المذكور وثم سفره إلى لندن فقد تم اغتياله
هناك بالتنسيق مع السفارة العراقية بلندن. وهذا السلوك الشيطاني عند (صدام)
وقبله البكر به دلالة على كون صفة (الغدر) لدى صدام هي منهاج عمل سياسي
عشوائي لا يفرق إذا وقع الغدر صديق له أو عدو فكلاهما في حساب (الخسة
السياسية) لديه سواء والمهم هو أن يتهيب الجميع من احتمالات إنزال
عقوبة الغدر بأي كان وتلك المعادلة المرة هي التي قوّت صدام وطريقة
حكمه وفاشية إجراءاته حتى بأقرب الناس الذين أصبحوا يخافون شروره أكثر
حتى من السياسيين المعارضين لحكمه.
ولعل من مفارقات السياسة بالعراق التي أوصلت شخص
مثل صدام على علات إرهابه ليقود السلطة في ظل أحرج الظروف السياسية فقد
كان واضحاً أن أي شخص من فريق صدام السياسي لا يشعر تماماً بعقدة النقص
في نفسه أن يحزم أمره لتقبل إنزال الموت القريب بشخصه فطبيعة الحكم
الصدامي لم تكن تعمد إلا على الناقصين شخصياً والمنبوذين في المجتمع
العراقي بسبب بوليسية عمل الفريق السياسي الحاكم ببغداد وعلى أساس من
هذه الحقيقة المرة تعامل رجال العهد المباد طيلة فترة ناهزت الثلاث
عقود بأرستقراطية مغالاً بها حيث كان الناس الأبرياء أو المخالفين
قانوناً مخالفات بسيطة يساقون إلى ساحات الإعدام العشوائي أو تشوه
سنحاتهم بواسطة قص أنوفهم أو آذانهم أو أيديهم ولأسباب يندى لهم حتى
جبين كل الحكام الظالمين وفرقهم السياسية المجرمة. |