كان السجناء في عهد صدام حسين يُنقلون إلى السجن
الأكثر تخويفا في العراق واسمه «ابو غريب» بواسطة شاحنات مخصصة لبيع «الآيس
كريم» المرسوم على جانبها مخروط يرتفع فوقه الـ «آيس كريم» بعد أن تجرى
لهم محاكمة صورية. في هذه الشاحنات كان السجناء يُحشرون بخشونة. ويتذكر
السجين السابق الطبيب أحمد محمد باقر العطار، 41 سنة ، نقله في احدى
هذه الشاحنات ويقول «كنا نتهادى في مشيتنا مثل طيور البطريق بسبب آثار
التعذيب، ثم فجأة شاهدنا شاحنة قديمة لبيع الآيس كريم». أضاف وهو يطلق
ضحكة متحشرجة بالدخان «من الصعب تصديق ما كنا نرى... لكن كل شيء كان
عسيرا على التصديق».
وفي الطريق إلى السجن الممتد على أرض مساحتها تبلغ
280 فدانا والواقع على بعد 20 ميلا من مركز بغداد كان الرجال المحكومون
بالإعدام يقبِّلون أولئك الذين صدرت ضدهم أحكام بالسجن متوسلين بهم أن
يخبروا عوائلهم بمصائرهم. قال الطبيب كريم حسن جبار، 45 سنة، الذي قضى
تسعة أعوام في السجن «كانوا يبكون ويرتعشون ويجعلوننا نقسم». ويشك بعض
ممن افلتوا من عقوبة الاعدام وحكم عليهم بالسجن 20 عاما في أنهم كانوا
حقا محظوظين. وقال حكيم الخرقاني، 43 سنة ، واصفا تلك اللحظة التي عبر
فيها بوابة السجن عام 1982 «شعرت بكرب ويأس عميقين كأني طُعنت بسكين في
المعدة». وكان قد لقي الكثير من التعذيب في مقر الأمن العام ببغداد
وهذا يشمل الصدمات الكهربائية. كان خائفا من أن يستمر التعذيب بعد صدور
الحكم عليه.
وبالنسبة للآلاف من السجناء السياسيين الذين كان
يتم إعدامهم بطريقة فجة شنقا في غرفة الإعدام الرهيبة، كان سجن أبو
غريب المحطة الأخيرة لهم ضمن نظام تعذيب شديد الوحشية. كذلك كان الحال
بالنسبة لآلاف السجناء الذين أفلتوا من حبل المشنقة إذ كان عليهم أن
يصارعوا للبقاء أحياء داخل زنازين متعفنة ومكتظة بالسجناء وموبوءة
بالأمراض حيث التهديد بالعنف المتضمن التعذيب والإعدام السريع كان
قائما دائما.
واليوم أصبح السجناء السياسيون شهودا أحياء على
جهاز القمع الذي كان سائدا أيام الرئيس المخلوع صدام حسين. فالناجون
يقدمون شهادات تفصيلية مباشرة حول البربرية المحكومة بالنزوات لنظام
السجن. ولا بد أن يتطلب جمع الشهادات بشكل كامل عدة سنين فيما يبقى
احتمال إجراء محاكمات للقيادة السابقة وموظفيها بعيدا. وهناك رغبة قوية
بين الناجين من سجن أبو غريب ألا يتم نسيان الألم الذي لحق بهم وبغيرهم،
وهم يريدون نظاما قضائيا جديدا لفرض العقوبات، ويريدون أن تبقى دروس
الماضي محفورة في الذاكرة كضمان على حرية العراق مستقبلا.
وقال الخرقاني معلقا «السجناء هم أفضل معلمي العراق».
وكان رجال الشرطة السريون قد حضروا إلى بيته بملابس مدنية بعد مرور
ساعات قليلة على احتفال جرى مساء في نادي العلوية ببغداد لطلبة فصله
الجامعي بعد تخرجهم بشهادة في الهندسة المدنية. وبعد قدومه من النادي
قامت أسرته نثرت اسرته الحلوى فوق رأسه فقد كان الأول من بين أخوته
السبعة الذي حصل على شهادة جامعية. وبعيدا عن منطقة سكنه اقتيد
الخرقاني بعد تعصيب عينيه وتقييد يديه إلى مقر مديرية الأمن العامة
وهناك رُبِط إلى مدفأة موضوعة خارج غرف التحقيق، ومع وجود غطاء على
رأسه لم يكن يستطيع أن يرى أي شيء لكن أذنيه كانتا تلتقطان صرخات ونحيب
السجناء الذين كانوا تحت التحقيق.
بعد عدة ساعات من الانتظار كان المعتقلون يُجلبون
إلى غرفة التحقيق. الأسئلة تبدأ بروتين ثابت: الاسم والعمر والمهنة. ثم
عرض بالاعتراف فورا وتجنب ما هو أسوأ. كان البعض مثل الخرقاني لا
يعرفون ما هي التهم الموجهة ضدهم فيما كان آخرون يعرفون أن الاعتراف
بالانتماء إلى تنظيم محظور مثل حزب الدعوة الشيعي يعني الموت. كانت
كلمة من مخبر أو صديق أجبِر على الاعتراف أو معلومات استخبارية حقيقية
كافية للاعتقال. وشارك في هذا المصير شيوعيون وأكراد وإسلاميون ناشطون.
كان الخرقاني على معرفة بطالب ناشط ينتمي إلى تنظيم سياسي إسلامي
وجِّهت له تهمة محاولة الاعتداء على طارق عزيز الذي كان آنذاك نائبا
لرئيس الوزراء بعد رمي قنبلة عليه داخل اجتماع طلابي مفتوح.
كان «جناح الاعدام» في سجن أبو غريب يشبه جزمة
مرتفعة العقب، فهي بناية متواضعة ومن باب الدخول الرئيسي هناك 10
زنازين على اليمين كان يحشر في كل منها 25 سجينا. وما زالت الكتابات
التي تركها السجناء على الجدران بعضها دعوات لله وتقول احداها «ربي
أنقذني وأنا سأصلي 70 ألف مرة». ولكن لم يكن هناك أي أمل فالقرارات
التي كان يتخذها مجلس قيادة الثورة لم تكن قابلة للاستئناف. ويقدّر
المسؤولون الأميركيون الذين جددوا بناء سجن أبو غريب عدد الذين أعدِموا
في هذا المكان ب 30 ألف شخص خلال فترة حكم صدام حسين. وقد يكون العدد
أكبر من ذلك. وقال أحمد عباس الذي كان يعمل احصائيا في السجن إنه سجل
ما يقرب من 2500 عملية إعدام سنويا ما بين عامي 1999و 2001 ما بين سجين
سياسي وعادي. وكان معدل الإعدام في هذا السجن أعلى مما كان عليه في
فترة الثمانينات حينما شنت الحكومة آنذاك حملات قمع ضد أعدائها
المفترضين من الشيعة والأكراد، ثم شنت حملات أخرى في سنة 1991 حينما
قمعت انتفاضتين جرتا في الشمال والجنوب.
في أوائل الثمانينات كان الجلاد يعرف باسم «أبو
وداد» حسبما يقول بعض السجناء والحرس السابقين. وكان رجلا طويلا بعضلات
بارزة ويحمل في خصره مسدسا حفِر عليه اسم صدام حسين. وكانت الإعدامات
تجري يومي الأربعاء والسبت من كل أسبوع، حيث تبدأ عند الغروب وتستمر
حتى تصل أحيانا إلى قتل ما بين 50 و60 شخصا، حسبما قال سعدي خضير عطوان
جابر، 46 سنة، الذي كان يعمل سائق سيارة إسعاف وشهد على عمليات الإعدام
ثم كان ينقل الجثث من الغرفة. يقول جابر إن رائحة الويسكي كانت دائما
تفوح من فم «ابو وداد». وكان السجناء يُنقلون وهم مقيدين من الزنازين
إلى رواق البناية الشديد الرطوبة وهناك تجلس لجنة وراء طاولة فيقوم أحد
أفرادها بقراءة حكم الإعدام. أما غرفة الإعدام نفسها فتقع مباشرة وراء
ذلك الرواق. ثم يمشي المحكومون فوق سطح منحدر ويوضعون على واحدة من
بابين موضوعين فوق الأرضية نفسها، وكل باب مكوَّن من مصراعين يُغلقان
ويُفتحان. وفوق كل باب كانت هناك انشوطة سميكة هابطة من قطعة فولاذ.
ووجدت سلطة قوات التحالف آخر حبلي المشنقة في سجن أبو غريب حسبما ذكر
الجنود الأميركيون العاملون حاليا فيه. وكانت الأنشوطة توضع في رقبة كل
سجين محكوم ثم يوضع كيس أخضر فوق رأسه. تقوم رافعة آنذاك بفتح البابين
ثم يكون الرنين الحاد الناجم عن فتحهما إشارة للسجناء الموجودين في
الزنازين عن وقوع عملية إعدام. كذلك كان هناك جلاد آخر اسمه عقيل وعمل
في أواخر الثمانينات. وكان هذا الشخص يقف بجانب المحكوم بالموت محتضنا
إياه كي يهبط معه للتوثق من موته السريع. ويقول جابر الذي عمل في السجن
بين عامي 1987و1991 «كان دائما يحتضن السجناء النحيفين ويسقط معهم وهذا
دليل على شعور بالشفقة. ولا احد يعرف اين هما هذان الجلادان الآن».
تعود فترة وضع تصاميم سجن أبو غريب إلى فترة
الخمسينات لكن المشروع جمِّد حتى منتصف الستينات حينما أصبحت سجون
بغداد التي تعود إلى العهد العثماني مكتظة بنزلائها، ولم يتم إكماله
حتى سنة 1969 بعد استيلاء حزب البعث على السلطة سنة .1968 ويقول عبد
الكريم هاني، 75 سنة، الذي عيِّن وزيرا للعمل والشؤون الاجتماعية سنة
1963 والذي أمر ببناء السجن: «لا يمكن أن تكون أية بناية شرا بحد ذاتها،
إن الناس الذين يديرونها يستطيعون تحويلها إلى شر. كان من المفترض أن
يكون سجن أبو غريب مركزا حديثا وتقدميا». وكان هاني أحد نزلاء سجن أبو
غريب في فترة التسعينات بعد أن فشل في الكشف عن مؤامرة ضد صدام كان أحد
أصدقائه مشاركا فيها.
هذا وقد أعلن الجيش الاميركي امس عن اغلاق معتقل (كروبر)
وهو سجن كبير اقيم في مطار بغداد اعتقل فيه مئات العراقيين تحت خيام
كبيرة. وقال اللفتاننت كولونيل جورج كريفو المتحدث العسكري الاميركي ان
كامب كروبر «اغلق». وكان المعتقل الذي سجن فيه المعتقلون في خيام تحت
شمس الصيف الحارقة موضع العديد من الانتقادات من قبل منظمات الدفاع عن
حقوق الانسان. واحتجت منظمة العفو الدولية على ظروف اعتقال المساجين «المهينة».
وقال كريفو انه تم نقل المعتقلين الى «منشآت افضل» وان اغلبهم نقل الى
السجن المركزي ببغداد. |