من عادات الدهر وصروفه أنه يخلق الروح فيجعله في
سبات كما يخلق الأبدان، فيموت القلوب والضمائر ويفتر الحيوية والعزائم
ويندثر الأخلاق وينطفئ شعلته في النفوس، لذا تحتاج الشعوب دائماً إلى
ما يجدد ذاكرتها الجماعية ووجدانها، ويحفظ ملامحها الثقافية والحضارية
وتميزها.
وتشتد تلك الحاجة في لحظات التحول التي يخشى
فيها على (الخصوصية) والهوية من مخاطر التآكل والذوبان، أو التشاكل مع
الآخر.
وعندها يصبح تجديد الذاكرة الوطنية أو الرسالية
واحداً من الدوافع المهمة على استمرار الشعوب ودليل قدرتها على الخلق
والإبداع والتطور.
ومن الإبداعات التي تتفاعل في كيان الإنسان
وتشتعل جذوتها لتتفجر بركاناً صاخباً يحمل بين جنبيه رسالة المجتمع
فتكون فناً بمظاهر مختلفة شعراً وكتابة ورسماً وتمثيلاً و...
ثم إن الفنان حر فيما يمثل، وفيما يختاره من
أدوار تلائم ذوقه وإحساساته الفنية، وجرأته في اختيار الأدوار الصعبة
هي ما يميز قدرات الفنان وتكيفه بالأداء.
وأيضاً ما يقولونه (بأن الفن للفن) صحيح، لكن ما
نريد توضيحه هو أن الفن للفن عندما يكن الفن للمجتمع، لأن نفس الفنان
خلاصة المجتمع، شعبه يعيش في أعماقه، ومدينته تنطبع على عينيه، فعندما
يعبر عن نفسه، ينطبق التعبير على شعبه ومدينته، لأن الفرد حينما يشتد
في تفكيره نبض الشعور يصبح فناناً، ولكنه لا ينسلخ من قناعاته
الإنسانية، فهو إنسان قبل أن يكون فناناً، وفي مجال الفن لا يكفي أن
يعرف المرء الفن لكي يكون فناناً حقيقياً يجب أن تكون لديه المواضيع
التي تستحق أن تروى والشخصيات التي تصنع الحياة.
وباختصار يتعين على الفنان أن يحمل العالم
بداخله ويكون له رسالة.
هنا وبعد لم نخرج من هذا المجال: هل اختيار نخبة
من الفنانين في مصر كالمخرج وفيق وجدي والممثلين البطوليين كنور الشريف
وسوسن بدر ومحمد الصاوي وغيرهم لشخصية (عمر بن العاص) في عملهم
السينمائي، اختيار موفق أم ماذا؟.
المتتبع المثقف للتاريخ العالمي والإسلامي لا
يتريث في حكمه بإخفاق الاختيار فنياً، فلا يخفى على أحد أن الهدف من
إحياء ذكرى العظماء والرموز هو بعث روح الحياة من جديد للشعوب الميتة
وتنبيه الغافلين وحثهم على النهوض بأمتهم.
فلا بد أن يكون الشخصية المراد إحياء ذكراه
لديها من المقومات ما يجعلها رمزاً يتقدى به، لا أن يكون مجرم حرب أو
من ذوي النفوس الضعيفة، ومواقفه الجبانة واضحة لأنه عند ذلك قد جنينا
على الفن وحكمنا على أنفسنا بالجهل والتخلف.
وبعد الفحص والتمحيص التاريخي نجد أن شخصية عمرو
بن العاص غير كفوءة لأن تحيا وسيرته غير صالحة لأن تروى، فهو معروف
بخبثه وجرمه، ودهاؤه كان غداراً.
فقد قتل محمد بن أبي بكر ووضع جثته في قلب بطن
حمار وأحرقهما في مصر، وبعد ذلك هو شريك في قتل الإمام الحسن، وهو وزير
معاوية وصاحب قصة الحاكمية وما ترتب عليها من مآسي نعيشها حتى اليوم،
وهو صاحب الجرائم الفظيعة في حق آل البيت، والتي طالبت إحدى الفضائيات
باعتباره مجرم حرب.
حتى في المفاخرة بنسبه هو وضيع إذ لم يعلم لكن
نسب إلى العاص بن وائل الذي آذى النبي كثيراً بقوله أن محمداً أبتر،
فنزلت الآية (إن شانئك هو الأبتر).
الخلاصة: إن اختيارهم لشخصية (عمرو بن العاص)
ينزل من مستواهم الفني والإبداعي فضلاً عن الشرخ الذي يحدثوه في
التاريخ.
وثانياً: كيف لفنان مثل نور الشريف كان يعتزم
تمثيل فيلما سينمائيا عن سيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي (عليه
السلام) وهو الآن ينتقل لتمثيل دور عمرو بن العاص فكيف لمثقف مثله ينزل
من أعلى القمة إلى أسفل ولا مجال للمقايسة بينهما.
ففي شخصية الحسين (عليه السلام) جميع مقومات
النجاح عالمياً أولاً نسبه الواضح المتصل بالشجرة النبوية الكريمة،
وأخلاقه الرفيعة من كرم وإباء وسماحة وعلم وشجاعة وكل صفات الخير،
فكفاه أن فجر ثورة ضد الظالمين والطغاة لتبقى مدرسة تعلم الأجيال عدم
الاستسلام والخضوع للظالمين، فهي بحق شخصية تستحق أن تروى سيرته العطرة.
وثالثاً: جامعة الأزهر العريقة باعتبارها صرحاً
علمياً ومعلماً دينياً وثقافياً تتجه أنظار العالم إليها يتوقع منها
دائماً أن تكون منار هداية وسبيل خير لكل الناس.
فكيف لشيخها أن يرفض مسرحية (الحسين شهيداً)
للمخرج جلال الشرقاوي، ويقبل بتمثيل فيلم (عمرو بن العاص) مع وجود
الضمائر الحية والنفوس الأبية في بلد كمصر معشوقة آل البيت، التي منها
تزوج النبي وفيها قال: خير أجناد الأرض... وإليها لجأ أهل البيت (ع)
عندما تعرضوا للقتل والسبي على أيدي الظالمين. فصدق الباري عز وجل
عندما استنكر (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير).
نعود ونناشد الإخوة في الأزهر أن لا يقفوا موقف
المتفرجين حيال تزييف التاريخ وتبديل الوقائع في الفيلم، وأن يحرصوا
على الأمانة التاريخية ويلتفتوا إلى أهمية ذلك للأجيال اللاحقة من
أبناء المسلمين.
لقد استبدلوا آل البيت (عليهم السلام) بأسماء
حسابها عند ربها يوم لا ينفع مال ولا بنون.
المصدر: شبكة النبأ
المعلوماتية |