اسطورة الخلافة

إطلالة على التاريخ السياسي

حاتم حميد محسن

 

في عام 1924، ألغى الزعيم التركي كمال اتاتورك رسميا الخلافة العثمانية. واليوم تدور معظم النقاشات الغربية حول تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام- المجموعة المتشددة التي اعلنت الخلافة في اجزاء واسعة من العراق وسوريا- بالإشارة الى هذا الحدث كما لو انه نقطة تحول عميقة في التاريخ الاسلامي. بعض الاسلاميين المعاصرين يفكرون ايضا بهذه الطريقة، والدليل على هذا ان "شبل الاسد" وهي دار مطبوعات خاصة بأطفال الاخوان المسلمين، منحت قصة اتاتورك "اليهودي الخائن" الجائزة الاولى في المسابقة التي أجرتها بعنوان "إعرف أعداء دينك".

ومع ان مرجعية الاسلاميين الحاليين ربما هي العثمانية، لكن مع ذلك، نرى ان غالبيتهم يركزون اكثر على محاولة إعادة خلق الخلافة المبكرة: عصر الخلفاء الراشدين الذين حكموا مباشرة بعد وفاة النبي في القرن السابع الميلادي، او الخلافة العباسية التي وُجدت بشكل او بآخر من القرن التاسع الى القرن الثالث عشر (قبل الغائها رسميا على يد المغول). وعبر المزج بين العائلة الملكية العثمانية في القرن التاسع عشر وحكم الخلفاء قبل الف سنة او اكثر، قام الخبراء الغربيون والمفكرون المسلمون ذوي الحنين للماضي ببناء قصة للخلافة كمؤسسة جوهرية ودائمة، للاسلام وللفكر الاسلامي بين القرن السابع الميلادي والقرن العشرين. في الحقيقة، ان الخلافة هي فكرة سياسية ودينية سطع نجمها واضمحل تبعاً للظروف السائدة.

ان التاريخ الحديث للخلافة في ظل الحكم العثماني يبيّن لماذا كان يُنظر لهذه المؤسسة كفنتازيا سياسية – حالة لا تعبّر عن اي شيء تشبه في غموضها "دكتاتورية البروليتاريا" – التي يعمل الاسلاميون الحاليون على تجميلها في سعيهم نحو أهدافهم. (ان لم تكن كذلك، ما كان باستطاعة تنظيم داعش استخدام نفس المصطلح لوصف دويلتهم الدموية لدرجة دفعت رجال الاعمال البريطانيين المسلمين لطرح فكرة قائد منتخب وديمقراطي للعالم الاسلامي). ان قصة الخلافة العثمانية تشير ايضا الى ان محاولة بلوغ اي صيغة لهذه الفنتازيا، ستجعل الاسلاميين المعاصرين يواجهون نفس التناقضات التي اطاحت بالعثمانيين قبل قرن.

إعادة تسويق العثمنة

عندما انتصرت الامبراطورية العثمانية على مصر والجزيرة العربية عام 1517، ادّعى السلطان سليم رسميا بالخلافة لنفسه ولورثته. وبالاضافة لسيطرته على مدينتي مكة والمدينة، ولكي يكرّس ادّعائه، قام بإعادة مجموعة من ملابس النبي وبعض الشعرات الى استنبول.

بعد تلك الحقيقة بقرون، قرر العثمانيون انهم بحاجة لجعل العملية بأكملها تبدو اكثر احتراما، لذا بدأ مؤرخو العائلة الحاكمة الادّعاء بان الوارث الاخير للخلافة العباسية، الذي يعيش في المنفى بالقاهرة بعد قرون من فقدانه العرش، تنازل عن اللقب طوعا الى سليم. وعملياً رسّخ العثمانيون مطالبتهم بالقيادة الاسلامية حين عملوا كحرّاس للحج وإرسالهم النفائس الذهبية لغطاء الكعبة كل سنة.

ولكي نفهم انتزاع اللقب من منظور اوضح، لابد ان نتذكر السلطان العثماني محمد الثاني عندما فتح بيزنطة عاصمة القسطنطينية قبل 64 سنة من فتح السلطان سليم لمصر، حيث ادّعى لقب قيصر روما لأحفاده. وبقدر ما ان الخليفة لم يحقق اي مكاسب اكثر من كونه قيصر العثمانيين في اواخر القرن التاسع عشر، فان ذلك كان الى حد كبير نتيجة الحملة السياسية من جانب السلطان عبد الحميد الثاني (المشار اليه في الصورة اعلاه) لحشد العواطف المضادة للاستعمار المعادي للدولة العثمانية وليعزز شرعيته المحلية. وسائلهُ تضمنت السعي لجعل اسمه يُقرأ كل يوم جمعة بصوت عال من المصلين وتوزيع نسخ من القرآن على المسلمين في جميع انحاء العالم من افريقيا الى اندونيسيا.

لا يوجد هناك شك بان العديد من المسلمين الذين استاؤوا من انتصارات الاوربيين المستعمرين في داخل بلدانهم، أحسّوا بالإعجاب بفكرة القائد التقي والقوي مثل السلطان العثماني بتحدّيه للامبريالية الغربية دفاعا عن جميع مسلمي العالم. بالتأكيد، مسؤولو بريطانيا وفرنسا عبّروا عن خوف متزايد على مصالحهم في المستعمرات المسلمة في شمال افريقيا والهند. ورغم ان عبد الحميد كان متلهفا في سعيه لازالة مثل هذا الخوف، لكنه، كان لديه شعور بالشك في حجم نفوذه الحقيقي في هذه الاماكن المترامية الاطراف.

هو كان يخشى بشكل خاص من ان ادّعائه بالخلافة لا يلقى القبول من جميع الناس. وبعيدا عن اولئك الذين التفّوا حول السلطان العثماني بدافع التضامن الديني كان هناك اخرون، متحفزين بالقومية العربية وبالاستياء من المستبد العثماني عبد الحميد الثاني، الذي وضع الاسس الدينية لحكمه امام التساؤل. هؤلاء المفكرين، بما فيهم رشيد رضا، برروا خلق خلافة عربية مغايرة بالاستدلال من قول النبي في ضرورة ان يكون الخليفة عربيا من قريش.(العثمانيون، يبدو قبلوا صلاحية هذا الاستدلال ولكن لديهم تفسيراتهم الخاصة، بموجبها لم يقصد النبي حقا وجوب انحدار الخليفة من قبيلة قريش).

ولكن في كلتا الحالتين، قادت السياسات العنيفة في بدايات القرن العشرين وبسرعة لهزيمة الثيولوجي. وبالرغم من جهود عبد الحميد في الدفاع عن الايمان، لكنه استمر يخسر الاقاليم والسلطة السياسية لصالح القوى المسيحية الامبريالية. هذا ساعد القادة العلمانيين في حركة تركيا الفتاة، مثل انور باشا، بإزاحة السلطان عبد الحميد وانتزاع السلطة لنفسه في عشية الحرب العالمية الاولى. وعندما حققت الامبراطورية العثمانية بعض النجاحات العسكرية اللاحقة في حرب البلقان الثانية، اصبح انور باشا يمثل رمزاً لطموحات العالم الاسلامي. في الحقيقة، كانت قائمة الولادات الحديثة في تلك الفترة تنطوي على أسماء مثل انور خوجة، زعيم ألبانيا، والرئيس المصري أنور السادات.

الوارث العربي

بالطبع، بدأ نجم انور باشا بالافول ايضا بعد هزيمة العثمانيين في نهاية الحرب العالمية الاولى. وبسرعة برز اتاتورك كبطل قومي جديد حين قاد حملة ناجحة لطرد القوات الفرنسية والايطالية والبريطانية واليونانية من منطقة الاناضول العثمانية. وبسرعة، أبدى بعض السياسيين ذوي الميول الاسلامية الذين دعموا خلافة عبد الحميد المناوئة للامبريالية اعجابا كبيرا بصمود اتاتورك العسكري ضد الاوربيين. في فلسطين، مثلا، أشاد المسلمون باتاتورك لأنهم كانوا بحاجة للحماية من المستوطنين الصهاينة والمحتلين البريطانيين، مما دفع احد المسؤولين البريطانيين للتعبير عن القلق من ان القائد التركي اصبح "المنقذ الجديد للاسلام".

وفي نفس الوقت، ادّى اضمحلال السلطة العثمانية، اثناء وبعد الحرب العالمية الاولى الى إضفاء مصداقية عالية لفكرة الحاجة لخليفة جديد غير عثماني في العالم العربي. ولكن لم يكن واضحا ابداً منْ سيكون ذلك الخليفة العربي. النتيجة كانت هي عندما ألغى اتاتورك في النهاية مؤسسة الخلافة عام 1924، لم يكن هناك احتجاج او غضب واضح في العالم الاسلامي ككل. بعض المسلمين خاصة في الهند احتجّوا لأنهم يرون الخليفة كرمز هام للوحدة الاسلامية امام الاستعمار. آخرين كانوا اكثر اهتماما بالمناورة في ادّعاء اللقب لأنفسهم.

كان الشريف حسين بن علي، شريف مكة، الذي كان معروفا للورنس العرب في دعمه للثورة العربية كقائد محلي يسيطر على مكة والمدينة – وبافتراض انحداره من قبيلة النبي – اعتقد حسين انه بعد طرد العثمانيين من الشرق الاوسط، سيصبح ملكاً للعرب ولديه كل السلطات الدينية والدنيوية للخليفة. ولأجل هذا الهدف، قام الشريف حسين بدعوة السلطان العثماني الى مكة بعد ان نُفي الاخير من جانب اتاتورك.(الملك المنفي قرر فورا الاقامة في مدينة ريفيرا الساحلية الايطالية).

وبعد عدة سنوات، صرّح عبد الله ابن الحسين – مؤسس العرش الاردني – بانه بانهاء الخلافة، يكون الاتراك قدّموا اعظم خدمة للعرب وأحس" بالرغبة في ارسال برقية شكر لمصطفى اتاتورك". بالطبع، لم تتحقق خطط الشريف حسين بالضبط كما كان متوقعا. فهو رغم حصوله المبكر على مساندة بريطانيا لمشروعه في الحرب، لكنه لم يوافق على اتفاقية سايكس بيكو. فرنسا طردت ابنه من سوريا، وقبل ذلك بوقت طويل طرده السعوديون من الجزيرة العربية. وفي الوقت الذي اعلن فيه الشريف حسين رسميا الخلافة لنفسه، ربما تحت ضغط جماعة معينة من القادة المسلمين، بدأت سلطاته بالانحسار الى الحد الذي اصبح فيه الإعلان عن الخلافة يبدو كما لو انه عملا يائسا.

في تلك الاثناء؟ كانت الملكية في مصر تدّعي التقدمية. ورغم انحياز الملك فؤاد القوي لبريطانيا وانحداره من اصول البانية شركسية لا ارتباط لها بعائلة النبي لكنه وضع في صدارة اهتماماته قضية انتزاع العرش من العثمانيين. وفي كلمة لأحد الباحثين الاسلاميين جاء فيها ان مصر هي في موقف افضل لإستلام الخلافة بدلاً من بدوي من الصحراء مثل الشريف حسين "لأن مصر لها الريادة في التعليم الديني ولديها أعداد هائلة من المثقفين والمفكرين المسلمين ذوي التعليم العالي". وكذلك بالنسبة للملك ادريس الاول في ليبيا الذي رغب ايضا في لقب الخلافة، لكنه، كسابقه الملك فؤاد قرر في النهاية ان هناك دعماً قليلاً له للاعلان عن ذلك رسميا.

اما الملك سعود، رغم انه في النهاية استولى على الارض المقدسة من الشريف حسين، لكنه كان من بين القادة القلائل الذين لم يطالبوا بالخلافة رغم النقاش الذي جرى لهذه الفكرة. كان الملك السعودي مناصراً للحركة الوهابية التي برزت كتمرد ضد تفسخ الحكومة العثمانية في القرن الثامن عشر. ومن المفارقة، رغم ان معارضته للنمط العثماني للخلافة كانت تحظى بتأييد عرب آخرين، لكن النموذج الخاص للتدين الذي اتّبعه سعود كان شديد التطرف لدرجة لم يفكر معها بإمكانية اعلان الخلافة لنفسه.

اخيراً، كانت عدم صلاحية هذه المسألة من الجدل السياسي تشكل فقط عاملاً واحداً من بين العوامل التي ساعدت في استبعاد نقاش الخلافة لعدة عقود قادمة. العديد من المسلمين استجابوا لإلغاء الخلافة بتكثيف جهودهم لبناء حكومات دستورية علمانية في بلدانهم. في الحقيقة، كانت اقوى الحركات المعارضة لطموحات الملك المصري بالخلافة هي من الليبراليين المصريين الذين عارضوا اي حركة تسعى لزيادة سلطات الحكم الملكي. الباحث المصري علي عبد الرزاق في نقده الشهير لفكرة الخلافة، ذهب بعيداً لدرجة اعتبر فيها ان "القرآن لم يتضمن اي اشارة للخلافة التي يدعو لها المسلمون". وفي هذه الفترة ايضا بدأ عدد من المفكرين والعلمانيين والاسلاميين النقاش في امكانية وجوب ان يكون الخليفة شخصية دينية خالصة، كـ "بابا اسلامي"، متحرراً من اي سلطة دنيوية.

آمال واحلام

سيكون من الخطأ الاعتقاد ان الحركات الاسلامية في القرن الواحد والعشرين تحاول انعاش الخلافة وفق قواعد اسلامية محددة وواضحة المعالم. بل، هم مجرد لاعبين آخرين في القضية الممتدة لقرون طويلة حول مفهوم لم يأخذ انتشاره في العالم الاسلامي الاّ في حالات نادرة.

ان ميراث الجولات المبكرة من هذا النقاش لا تزال يُستشعر به اليوم. لا غرابة ان الخلافة العثمانية كطموح تاريخي كان لها تأثير كبير بين الاتراك المسلمين، الذين عُرفوا بحنينهم القوي للقوميين الاتراك كونهم رفعوا مجد الامبراطورية اكثر مما فعلت القداسة الدينية للسلاطين. بالمقابل، كان اجتماع الميراث الديني لعبد الوهاب في نقد الدولة العثمانية في القرن الثامن عشر، مع الميراث السياسي للقومية العربية في معارضتها للعثمنة، منح الكثير من المسلمين غير الاتراك سببا كافيا لتفضيل رئاسة خليفة عربي.

كان المختصون الغربيون في تعاملهم مع الخلافة العثمانية كآخر مرجعية تاريخية لما يطمح اليه الاسلاميون الحاليون، مزجوا بين الحلم المعاصر بقائد مسلم مؤثر ومحترم عالميا و الحلم الفاشل لآخِر سلطان عثماني في ان يصبح ذاته قائدا. الظروف الموحدة لهذين الحلمين – والدعوة لإيجاد سلطة دينية قوية تقف بوجه القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية الغربية – ربما هي ذاتها. ولكن التحديات هي ذاتها ايضا. المطالبون الحاليون بلقب الخلافة ربما يجدون انفسهم بسرعة في نفس القارب الذي غرقت فيه الخلافة العثمانية. النجاح السياسي او العسكري، بدلا من التاريخ او الثيولوجي، يمكنه تحقيق شرعية قصيرة الأجل، لكن الفشل في هذين العالمين سيجلب للسطة منافسين آخرين.

.............................

The myth of the Caliphate, The political History of an Idea, FOREIGN AFFAIRS. November 19, 2014.

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 3/كانون الأول/2014 - 10/صفر/1436

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1436هـ  /  1999- 2014م