في التغيير الذاتي .. اللين في التغيير والشدّة في البناء

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: يعتقد البعض أن شيئاً الشدّة والقسوة لتحقيق تغيير في النفس الانسانية، يعد امراً مفيداً. فالانحرافات السلوكية والظواهر الاخلاقية الشاذة، لا علاج سريع وناجع لها – باعتقاد هذا البعض- سوى "الكيّ" او الصدمة واستخدام الاساليب العنيفة، ويستدلون بذلك على النتائج؛ فالانسان المستهدف في هذه عملية التغيير هذه، نلاحظه يسير على الطريق المستقيم، لا ينحرف يميناً ولا شمالاً... فهو لن يجرؤ على  الكذب والخيانة والتجاوز على حقوق الاخرين.

في المقابل هنالك علماء وباحثين يؤكدون أن هذه الطريقة من التغيير، لا تحقق التغيير الحقيقي إنما القضية لا تعدو تكون مسايرة للجو السائد، وما أن تتغير الاجواء والظروف يعود الى الانسان الى سابق عهده، والامثلة على ذلك كثيرة في عديد بلادنا عندما تزول الديكتاتورية وعامل الرعب والخوف من السلطة. إنما الصحيح والمطلوب، هو التغيير الذاتي والجذري عبر القول اللين ومنهج الاقناع.

وطالما أكدت النصوص الدينية على هذا المبدأ، في القرآن الكريم وفي السيرة العطرة للمعصومين، عليهم السلام، بيد أن المشكلة تبدأ عندما يكون صاحب مشروع التغيير في عجلة من أمره، سواء يكون في إطار مؤسسة دينية -  ثقافية او شخصية قيادية، وربما هذا التسرّع له دوافعه ومصالح معينة تفرض منهج الشدّة والعنف في التعامل مع الظواهر السلبية في المجتمع، بيد أن لهذا المنهج المتعارض مع الفطرة الانسانية، نتيجتها السلبية ايضاً على الطرفين. وهو ما يشير اليه سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- في كتابه "اللاعنف منهج وسلوك" حيث يرى فوائد كثيرة لمنهج اللاعنف في عملية التغيير أهمها خلق أجواء المودة والمحبة في المجتمع من جهة، وبين المجتمع والقيادة من جهة اخرى. والعكس يكون بالعكس قطعاً.

وقد أشبع العلماء والباحثين هذا الموضوع بحثاً ودراسةً لما له من مدخلية في أمر الاخلاق والثقافة والبناء الاجتماعي، وقد استندوا في ذلك على سيرة المعصومين، عليهم السلام، لاسيما الامام زين العابدين، عليه السلام، ونحن نمر هذه الايام بالذكرى المتعلقة به، إذ في هكذا أيام كان الامام مع عمته زينب، عليهما السلام، ومن بقي من عائلة الامام الحسين، عليه السلام، بعد واقعة الطف، ضمن موكب السبي الظالم، وكان، عليه السلام، من اكثر المثقلين بالسلاسل الحديدية من عنقه حتى قدمه...! وهو في هذه الحالة، وكأي انسان آخر، يشعر بالألم والضغط النفسي الكبير بعد استشهاد أبيه والغارة على خيام عائلته وارتكاب أفظع الجرائم بحقهم، فهو بالنتيجة انسان مصاب وفي حالة حرجة وعصيبة وبحاجة الى من يطيب خاطره ويتضامن معه. بيد أن المفاجأة تكون عندما يقف شيخ كبيرة في الكوفة ويبدأ بالصراخ في وجهه ويقول: "الحمد الله الذي فضحكم وأكدب احدوثتكم و...."!!

إن أي انسان يواجه هكذا موقف لا يسعه سوى الرد – على الاقل- بالمثل، إن يبادره بأقوى منه، وربما يسوق لذلك الاعذار... بيد أن موقف الامام كان هو المفاجأة الاكبر، عندما سأله عما اذا كان يقرأ القرآن ، فأجاب الشيخ الكوفي بـ: "نعم"، ثم تلا عليه الآيات القرآنية التي تبين أنهم من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

هذه الطريقة من التغيير هي التي أخرجت ذلك الشيخ من نفق التضليل الاعلامي والتشويه للحقائق، الى نور الحقيقة، فاصبح من اصحاب الامام ومن خلّص الشيعة. وهكذا الامثال لا تُعد في هذا المجال، من التاريخ القديم وايضاً من التاريخ الحديث. وهي نفسها التي عبئت الجماهير وخلقت سيولاً هادرة من الرفض للظلم والطغيان، فكانت لهم الكلمة الفصل في مراحل تاريخية عديدة، تركوا من خلالها بصماتهم على الواقع الاجتماعي والسياسي، وهذا بفضل النفوس الطيبة  والروح الايمانية التي يحملونها، إذ لولا الارضية الطيبة التي ينطلقون منها، لما كان أي عمل ثوري او مشروع ثقافي يحقق النجاح، كما حدث في الانتفاضات الجماهيرية والفتاوى المدوية التي غيرت مسار الاحداث في ايران والعراق – على سبيل المثال- في التاريخ الحديث. هذا البناء المشيّد والمرصوص، لم يكن إلا بوجود ايمان راسخ وقناعة حقيقية، وليس التغرير والتضليل والتسطيح الذي يتبعه البعض.

هذه المعادلة تغيب عن الاذهان – للأسف- عندما تتدخل مصالح آنية وشخصية في عالم السياسية والمال... بل نجد المعادلة مقلوبة! حيث تكون الشدّة في التغيير واللين في البناء، وربما يكون هذا المآل هو المتوقع والطبيعي لمنهج العنف في عملية التغيير وفرض الامر الواقع للحصول على نتائج سريعة. فالذي يتبنى فكرة معينة او عملاً معيناً عن غير قناعة حقيقية وايمان راسخ، لن يكون قادراً ولا مؤهلاً لأن يشارك في عملية التغيير الكبير في المجتمع، لان ببساطة لم يتمكن هو من تحقيق التغيير الذاتي الصحيح، فيكون غير مسؤول عن تغيير الآخرين.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 29/تشرين الثاني/2014 - 6/صفر/1436

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1436هـ  /  1999- 2014م