أموال التنمية القذرة

بيورن لومبورج

 

كوبنهاجن ــ إن واحدة من أكبر المشاكل التي تؤثر على فقراء العالم هي تلك التي لا يسمع عنها سوى قِلة من الناس: التدفقات المالية غير المشروعة. فرغم أن هذه التدفقات تكلف الناس في جيبوتي والكونغو وتشاد أكثر من 20% من دخولهم سنويا، فإنها تكاد لا تتصدر عناوين الصحف الرئيسية إلا نادرا. ومع استعداد العالم لإنشاء أهداف محددة من المفترض أن توجه جهود التنمية العالمية على مدى السنوات الخمس عشرة المقبلة، فإن الوقت حان الآن لتغيير هذا الوضع.

ولأن أهداف التنمية العالمية الجديدة ــ مثلها في ذلك كمثل الأهداف الإنمائية للألفية الحالية، والتي ركزت على الصحة والجوع والتعليم ــ من الممكن أن توجه عملية تخصيص مئات المليارات من دولارات المساعدات، فإن اختيار المناطق المناسبة التي يجب التركيز عليها أمر بالغ الأهمية. ومن المؤكد أن المجتمع الدولي، المتحير بين المئات من الأهداف المقترحة، يواجه تحدياً كبيرا.

وللمساعدة في توجيه هذه العملية، طلب مركز إجماع كوبنهاجن من 62 فريقاً من كبار خبراء الاقتصاد تحديد المجالات التي يمكن فيها تحقيق القدر الأعظم من الخير باستخدام الموارد المحدودة المتاحة حتى عام 2030. والواقع أن بعض الأهداف التي حددتها هذه الفرق ــ مثل زيادة الأمن الغذائي، وتوسيع فرص التعليم، وتحسين الرعاية الصحية ــ لم تكن مفاجئة.

ولكن هناك توصية واحدة ــ كبح جماح التدفقات المالية غير المشروعة ــ لم تكن متوقعة. فللوهلة الأولى، لا تبدو مثل هذه التدفقات وكأنها تشكل تهديداً قوياً أو ملحاً لرفاهة الناس مثل التهديدات المتمثلة في عدم توفر الغذاء الكافي لسد رمق الإنسان على سبيل المثال. ولا يدرك كثيرون أن التدفقات غير المشروعة تمثل أي مشكلة على الإطلاق.

ورغم ذلك، يُصِر الخبير الاقتصادي أليكس كوبهام على أن الحد من مثل هذه التدفقات لابد أن يحتل أولوية عالية. ويسوق كوبهام إلينا حجة قوية.

يشير تقرير معهد النزاهة المالية العالمية، إلى أن البلدان النامية خسرت في عام 2011 وحده ما يقرب من تريليون دولار بسبب التحويلات غير المشروعة إلى العالم النامي. وعلى نفس النحو، خسرت عشرون دولة أفريقية مبالغ تعادل أكثر من 10% من ناتجها المحلي الإجمالي سنوياً منذ عام 1980. (وهذا من شأنه أن يجعل أفريقيا دائناً صافياً للعالم، وإن كانت لا تستطيع أن تتوقع من العالم أن يسدد لها هذه المبالغ). وفي عام 2011 وحده تدفق إلى خارج الهند بشكل غير مشروع نحو 85 مليار دولار أميركي.

ولكن أين تذهب كل هذه الأموال؟ الواقع أن الأنظمة النهّابة تحول غالباً بعض ثروات بلدانها إلى حسابات مصرفية في سويسرا. ومن الواضح أن هذا سلوك غير قانوني (وبغيض على المستوى الأخلاقي)، شأنه كشأن غسل الأموال بواسطة المنظمات الإجرامية.

ولكن هناك أيضاً آلية قانونية تحتوي مثل هذه التدفقات المالية: التهرب الضريبي. رغم أن التهرب الضريبي ليس جريمة جنائية، فإنه يجتذب انتقادات واسعة النطاق ــ خاصة وأنه بات شائعاً بين شركات كبرى متعددة الجنسيات، بما في ذلك أمازون، وستاربكس، وجوجل. وتعمل هذه الشركات على تقليص التزاماتها الضريبية من خلال تسجيل وإعلان أرباحها في بلدان حيث الضرائب منخفضة، برغم قيامها بأغلب أنشطتها في أماكن أخرى.

وهناك طريقة أخرى لنقل رأس المال بين البلدان تتمثل في تزوير فواتير التجارة، حيث تغير الشركات قيمة الواردات والصادرات. وتشير دراسة حديثة للنزاهة المالية العالمية إلى انتقال 60.8 مليار دولار في الفترة من 2002 إلى 2011 بشكل غير قانوني داخل أو خارج غانا وكينيا وموزمبيق وتنزانيا وأوغندا على هذا النحو.

وفي مجموعها، تبلغ التدفقات المالية غير المشروعة حالياً ما يقرب من عشرة أضعاف إجمالي المساعدات الدولية. ولنتخيل معاً كم الخير الذي كانت هذه الأموال لتحققه إذا تم توجيهها نحو مشاريع تعزيز الرعاية الاجتماعية.

ولهذا السبب، اقترح كوبهام ضم شرط إلى أجندة التنمية التالية يقضي بإتاحة كل معلومات الملكية المفيدة للجمهور. ومن خلال جعل مسألة اختباء الأفراد خلف شركات وهمية أكثر صعوبة، فإن هذا القيد التنظيمي من شأنه أن يجعل إنجاز التدفقات المالية غير المشروعة أكثر صعوبة ــ ويجعل رصدها أكثر سهولة.

إذا أفضى هذا الجهد إلى انخفاض بنسبة 10% فقط في متوسط الخسائر الناجمة عن التدفقات المالية غير المشروعة، مقارنة بالفترة 2002-2012، فإن هذا من شأنه أن يوفر لهذه البلدان 768 مليار دولار ــ وهي الأموال التي يمكن استخدامها لتمويل مشاريع التنمية. وانخفاضها بنسبة 50% من شأنه أن يوفر 7.5 تريليون دولار.

بطبيعة الحال، سوف يتطلب القيد التنظيمي الذي اقترحه كوبهام تكاليف إدارية كبيرة. ولكن حتى إذا كان أعلى تقدير بنحو 66 مليار دولار صحيحا، فإن البلدان الفقيرة سوف تكسب ما قيمته 13 دولاراً في هيئة دخل إضافي عن كل دولار تنفقه ــ وهو عائد سخي للغاية. والمعدل الأكثر ترجيحاً للعائد قد يكون 49 دولاراً عن كل دولار يُنفَق.

ومن الممكن تعزيز تأثير هذا القيد التنظيمي بتفعيل اقتراحين آخرين: التبادل التلقائي للمعلومات الضريبية بين الولايات القضائية المختلفة وفرض متطلب يقضي بتقديم الشركات المتعددة الجنسيات تقارير عن عائداتها على أساس كل بلد على حِدة. وهذا المستوى من الشفافية ــ والذي قد يرقى في بعض الحالات إلى "التشهير والتعيير" ــ من شأنه أن يحول الكيفية التي تدير بها الشركات شؤونها المالية. ورغم الصعوبة الشديدة التي قد تواجه القائمين على تقدير التكاليف والفوائد بدقة، فمن المأمون أن نقول إن مثل هذه التدابير من المرجح أن تكون فعّالة للغاية من حيث التكاليف.

ولكن (هناك دوما "لكن") إذا كان لأي من هذه التدابير أن يصادف النجاح، فلابد أن تفرض على نطاق واسع وبشكل دائم وبصرامة قدر الإمكان. إن تقليص عدد القنوات المتاحة لتحويل الأموال إلى خارج أي بلد من شأنه أن يوجه المزيد من الأموال عبر القنوات المتبقية.

ومن المؤسف أن الإطار القائم لمنع غسل الأموال لا يقدم لنا أي سابقة مشجعة. فبرغم تقبل هذا الإطار عالمياً وفرضه في أغلب البلدان، فإن غسل الأموال يظل متفشيا. والأمل الذي تستند إليه مقترحات الشفافية الحالية هو أن بساطتها النسبية من شأنها تعزز من تأثيرها.

لا شك أن التغذية والتعليم والصحة والبيئة من المظاهر المهمة في الأجندة الإنمائية التالية. ولكن زعماء العالم لديهم سبب مقنع لإضافة مسألة الحد من التدفقات المالية غير المشروعة إلى القائمة.

* أستاذ مساعد في كلية كوبنهاجن لإدارة الأعمال، ومؤلف كتاب حماة البيئة المتشككون

https://www.project-syndicate.org/

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 18/تشرين الأول/2014 - 23/ذو الحجة/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م