الهجرة وقاعة المرايا

بيتر ساذرلاند

 

لندن ــ على ضفتي المحيط الأطلسي، تعمل السياسات المعادية للمهاجرين على تقويض الديمقراطيات وإفساد حياة البشر. وتكتسب الأحزاب القومية اليمينية المتطرفة المزيد من الثِقَل في أوروبا، في حين يعاني الملايين من المهاجرين غير الشرعيين في ظلال الإهمال. ففي الولايات المتحدة، قرر الرئيس باراك أوباما، الذي استبد به القلق بشأن قدرة حزبه على الاحتفاظ بسيطرته على مجلس الشيوخ، تأجيل إصلاح قوانين الهجرة إلى ما بعد الانتخابات في نوفمبر/تشرين الثاني.

غير أن هذا قد يكون النهج الخاطئ. فقد كشف استطلاع رأي أجراه صندوق مارشال الألماني مؤخراً أن المشاعر المعادية للمهاجرين تنبع إلى حد كبير من معلومات خاطئة مضللة وليس عداوة متأصلة.

وكان الاكتشاف الأكثر أهمية الذي توصلت إليه دراسة استطلاع الاتجاهات عبر الأطلسي التي أجراها صندوق مارشال الألماني هو أن الانزعاج بشأن المهاجرين ينخفض بشدة عندما يتسنى للناس الحصول على الحقائق الأساسية. على سبيل المثال، عندما سُـئِل الأميركيون الذين شملهم الاستطلاع ما إذا كان عدد المهاجرين في بلادهم أكثر مما ينبغي، أجاب 38% منهم بالموافقة على ذلك. ولكن عندما أنبأ القائمون على الدراسة المستجيبين لها عن عدد الأجانب المقيمين بالفعل في الولايات المتحدة قبل توجيه هذا السؤال إليهم، تغيرت آراؤهم بشكل كبير: فأجاب 21% فقط بأن عدد المهاجرين في بلادهم أكثر مما ينبغي.

وكانت هذه نفس الحال في بلد تلو الآخر. ففي المملكة المتحدة، قال 54% من المستجيبين للاستطلاع إن عدد المهاجرين في بلدهم كبير للغاية؛ ثم انخفضت النسبة إلى 31% بين أولئك الذين تعرفوا على الحقائق بشأن المهاجرين قبل سؤالهم. وفي اليونان كانت النسبة 58% ثم انخفضت إلى 27%؛ وفي إيطاليا انخفضت من 44% إلى 22%؛ وهلم جرا.

والبلدان الوحيدة التي غابت عنها هذه الفجوة كانت إما تلك التي لديها عدد ضئيل للغاية من المهاجرين، مثل بولندا، أو تلك التي تدير حواراً سياسياً مفتوحاً ومطّلعاً وأكثر تقدمية حول قضية الهجرة، مثل السويد وألمانيا.

وكشفت استطلاعات رأي أخرى عن قدر غير عادي من غياب الدقة عن التصورات التي يحملها الناس بشأن المهاجرين. ففي العديد من البلدان المتقدمة على سبيل المثال، يتجاوز عدد المهاجرين في تصور عامة الناس ثلاثة أمثال حقيقته. فيعتقد المواطن البريطاني العادي أن 34% من المقيمين في المملكة المتحدة أجانب؛ في حين أن الرقم الحقيقي هو 11%.

وتختفي مثل هذه التشوهات في البلدان التي تواجه التحديات المرتبطة بالمهاجرين علنا، فتناقشها بتعقل وتتعامل معها عن اقتناع. فيعتقد المواطن السويدي العادي على سبيل المثال إن 18% من سكان البلاد مهاجرون؛ والرقم الحقيقي أقرب إلى 13%. ونتيجة لهذا فإن النزعة الشعبوية في هذه البلدان ليست في ارتفاع، ولا يلجأ ساسة التيار السائد إلى الذم في الأقليات والمهاجرين والحط من قدرهم.

وهذا يشكل دليلاً قوياً على أن المناقشة والسياسات القائمة على الحقائق والواقع من الممكن أن تحول الديناميكيات السياسية السلبية التي تولدها الهجرة بشكل جذري. وهو يشير أيضاً إلى أن تقاعس ساسة التيار السائد في أوروبا عن إشراك الناخبين وإطلاعهم على الحقائق بشأن الهجرة يعمل على توليد الدعم للأحزاب المتطرفة. ولا شك أن هذا الجرح السياسي الذي نحدثه بأنفسنا بالغ الخطورة.

وتُظهِر دراسة استطلاع الاتجاهات عبر الأطلسي أيضاً أن الرأي العام الأميركي لا يشعر بالقلق من الهجرة الشرعية القانونية، في حين يعتقد نحو ثلثي المواطنين في الولايات المتحدة أن أبناء المهاجرين يجري دمجهم بشكل حسن في مجتمعاتهم. وينبغي لهذه النتائج أن تزيد من جرأة صناع السياسات في التحلي بقدر أكبر من النشاط في تصميم مسارات الهجرة القانونية والسياسات الكفيلة بدمج المهاجرين.

وحتى عندما يتعلق الأمر بالمهاجرين غير الشرعيين، وبرغم إعراب المواطنين الأميركيين عن قلقهم، فإنهم أكثر تعقلاً من قادتهم السياسيين في التعامل مع كيفية حل المشكلة. على سبيل المثال، قال أكثرية الأميركيين الذين استطلع آراؤهم صندوق مارشال الألماني إن المهاجرين غير الشرعيين لابد أن يُسمَح لهم بالحصول على وضع قانوني.

والاستعانة بنهج تشاوري لإشراك جماهير الناس في جوانب أخرى من الهجرة أيضاً من الممكن أن تساعد في تهدئة المشاعر المعادية للمهاجرين. على سبيل المثال، تُظهِر أبحاث حديثة أجريت في العديد من البلدان أن إسهام المهاجرين ككل اقتصادياً في مجتمعاتهم يتجاوز مكاسبهم منها. ففي ألمانيا، تُظهِر دراسة أجرتها مؤسسة برتلسمان ومن المقرر أن تنشر في الشهر القادم أن المساهمة المالية الصافية لكل مهاجر بلغت 3,3 يورو (4.26 دولارا) في عام 2012. ومن الواضح أن هذه البيانات تقلب رأساً على عقب الرأي السائد بأن المهاجرين يستنزفون الخدمات العامة.

لا شك أن الهجرة تخلق تحديات حقيقية للمجتمعات ومن الممكن أن تؤدي إلى فقدان الوظائف وانخفاض أجور العمال من المواطنين الأصليين. ولكن هنا أيضاً تكمن المشكلة في غياب الاهتمام بهذه القضايا، وليس وجود المهاجرين بالضرورة.

إن تنفيذ سياسات قوية في مجال إعادة التدريب على سبيل المثال، وسيلة أفضل لمواجهة هذه الآثار السلبية من تلك التي تدعو إلى الترحيل الجماعي. وهذا أحد الأسباب التي تجعل النقابات العمالية، التي كانت ذات يوم تعارض الهجرة عبر الحدود، أكثر دعماً الآن للتدابير الرامية إلى تقنين أوضاع العمال غير الموثقين وخلق المزيد من مسارات الهجرة.

إن المناقشة العامة المبنية على حسن الاطلاع لا غنى عنها للنظم السياسية الديمقراطية. وفي غيابها تكون الغلبة للتحيز والنزعات الشعبوية. ولن تكون مناقشة الهجرة بالمهمة السهلة السلسة بطبيعة الحال، ولكنها من الممكن أن تصبح أقل إغراضاً وانحيازا، وأكثر ميلاً إلى المشورة والتداول، إذا تعامل المشاركون فيها مع الحقائق.

* رئيس مدرسة لندن للاقتصاد والممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة للهجرة الدولية والتنمية

https://www.project-syndicate.org/

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 15/آيلول/2014 - 19/ذو القعدة/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م