التعريفات المعاصرة للمجتمع المدني

آية الله السيد مرتضى الشيرازي

 

ولجهة تعريف المجتمع المدني، فقد ذكرت له تعريفات كثيرة تصل إلى العشرات، وسنفصّل في النقد والتحليل بعض أهم بنودها في المباحث القادمة بإذن الله تعالى، إذ يعرّف المجتمع المدني بأنه (ما يقع بين الأسرة والدولة)، هو التعريف الذي كتبه أحد فلاسفة الغرب في العام 1812م، فما يقع فوق دائرة الأفراد مباشرة، وهي الأسرة والعوائل، لا تعتبر من المجتمع المدني على هذا التعريف، بينما المنظمات الوسيطة بين الأسرة وبين الدولة تعتبر -حسب هذا التعريف - من ضمن المجتمع المدني، كونها تقع بين الأسرة والدولة.

وأما المنظمات الوسيطة، فتشمل النقابات والاتحادات والأحزاب والجمعيات الخيرية، وغير ذلك، فالمجتمع المدني إذن يتكون من الطبقات والجماعات والمؤسسات (وتنتظم كلها داخل القانون المدني) بحسب التعريف.

وفي تعريف آخر: (هو مجموعة التنظيمات التطوعية الحرة، التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة، لتحقيق مصالح أفرادها، ملتزماً بذلك بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح والإدارة السلمية للتنوع والاختلاف).

وهناك تعريف آخر: (هو مجمل التنظيمات الاجتماعية التطوعية غير الإرثية وغير الحكومية)، وفي الإشارة إلى إحدى المآخذ في هذا التعريف فإننا لا نرى صحة القيد فيه (غير الإرثية)، بل: فلتكن تلك التنظيمات إرثية، مثل العوائل، حيث نعدها من مؤسسات المجتمع المدني، ومثل العشائر التي نعدها أيضاً من مؤسسات المجتمع المدني غير الإرثية وغير الحكومية.

وسنبحث لاحقاً عدم دقة هذه التعريفات في المنظار الإسلامي بإذن الله تعالى، ففي المباحث اللاحقة ستنصرف الدراسة إلى نقد وتقييم هذه التعريفات، لكن هذه التعريفات حتى الآن تتفق بمجملها على أن تلك المؤسسات الوسيطة، التي تقع أسفل من الدولة وأعلى من الأسرة، تعد من مؤسسات المجتمع المدني، ومن هذه المنظمات أيضاً: نوادي الشباب، ودور العبادة، ومنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان، ومنظمات الدفاع عن السجناء وغير ذلك.

أساس المجتمع المدني في الرؤية الإسلامية:

إن آية (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) تؤسس الأساس القانوني النظري الواسع لمؤسسات المجتمع المدني؛ إذ إنها تضع قانوناً أسمى يحكم الأفراد، وهو قانون التماسك والتكامل والتكافل الاجتماعي، الذي يتحمل فيه جميع الأفراد المسؤولية تجاه الجميع، أفراداً ومجاميع ومؤسسات ودولة، كل بحسب طاقته.

فالمجتمع المدني يستبطن في مفهومه حالة من التماسك، وحالة من التعاون في أدنى صورة وأبسطها، لكن الآية الشريفة تشير لأكثر الصيغ تطوراً، حيث تتضمن ست عشرة صورة من صور التماسك والتكامل والتكافل كما سيأتي، وهذا هو الأساس النظري، أو الإطار العام لفكرة المجتمعات المدنية في الرؤية الإسلامية، وهو: أنه هنالك حالة من المسؤولية المتقابلة بين كافة أطراف هذا المجتمع في ضمن حزمة من أربع مجاميع، كل مجموعة تتضمن صوراً أربع.

وصفوة القول: إن هذه الآية الشريفة تبين وتوضح الإطار العام، والبنية التحتية لفكرة المجتمع المدني، حيث تقول: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ).

كما أن الروايات الشريفة – أيضاً - ترشدنا إلى هذا المعنى، إذ إن كل فرد يتحمل المسؤولية تجاه الآخرين، ولا يصح لهذا الفرد أن يتحرك ويتعامل كمن يعيش في جزيرة منعزلة، بل إن لكل فرد مسؤولية تجاه سائر الأفراد، وله مسؤولية تجاه المجاميع، وله مسؤولية تجاه المجموع، وهذه النقطة سيشير لها البحث لاحقاً بإذن الله تعالى.

وقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) انه قال: (من قضى لأخيه المؤمن حاجة، فكأنما عبد الله دهره) وأي تأسيس أعظم من هذا التأسيس لحالة التكامل والتكافل والتواصل والإحساس بالمسؤولية، التي ينبغي أن يكون عليها الجميع؟ فإن هذه الرواية تعني أن العلاقة بين العبد والخالق، تمر فيما تمر، عبر العلاقة بين العبد وأخيه، ونلاحظ الروعة في هذا الحديث (من قضى لأخيه المؤمن حاجة)، هذا التشابك وهذا التشاطر في حمل هموم الآخرين، وفي قضاء الحاجات (فكأنما عبد الله دهره) والدهر يتسع ليشمل خمسين سنة، أو سبعين سنة، من العبادة أو أكثر أو أقل، وقضاء حاجة واحدة لمؤمن تتسامى حتى كأنها هي تلك العبادة، فلو أن هذا الأساس قد أعتمد في المجتمع فسوف لن يبقى هنالك فقير، ولن يبقى هنالك يتيم مطرود، أو مقهور، أو مستضعف.

وفي رواية اٴُخرى يقول: (صلى الله عليه وآله)، (من مشى في حاجة أخيه ساعة من ليل أو نهار، قضاها أو لم يقضها، كان خيراً له من اعتكاف شهرين) بمعنى أنه سواء أتمكن من قضاء حاجة أخيه أم لم يتمكن، فان له هذا الأجر العظيم، والمهم أنه قد سعى.

وفي رواية أخرى: (من مشى في حاجة أخيه المسلم، أظله الله بخمسةٍ وسبعين ألف ملك، ولم يرفع قدماً إلا كتب الله له حسنة، وحط عنه بها سيئة، ويرفع له بها درجة، فإذا فرغ من حاجته كتب الله عز وجل له بها أجر حاج ومعتمر).

فإذا بنيت ثقافة المجتمع على هذه الروايات فسوف لن تبقى حاجة معطلة في المجتمع، وسيكون المجتمع مثالياً كأسمى ما تكون المثالية، بينما المجتمع المدني بالمفهوم المعاصر لا يصل إلى هذا المستوى المتطور من المجتمع المتكافل والمتكامل، ولا حتى في عالم الأحلام، وللبحث صلة.

التسميات المحتملة والشاملة لمنظمات المجتمع المدني:

إن البحث في المجتمع المدني ومكوناته يدور حول التسمية نفسها. وقبل الخوض في المقاربات التحليلية والنقدية لمدركاته نرى إن(التسمية) الأصح والأدق هي (مؤسسات المجتمع الإيماني)، وإن شئت فسمّها (مؤسسات المجتمع الإنساني)، فإنه إذا كان منطلقنا منطلقاً دينياً فعلينا أن نسميها مؤسسات المجتمع الإيماني، وإذا كان منطلقنا منطلقاً إنسانياً فنسميها مؤسسات المجتمع الإنساني، وكلاهما صحيح ؛إذ (الناس صنفان) كما يقول أمير المؤمنين ومولى الموحدين علي بن أبي طالب(عليه السلام)، (الناس صنفان إما اخ لك في الدين او نظير لك في الخلق) وكما يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) :(كلكم من آدم وآدم من تراب) فالمنطلق إما إنساني، وإما إيماني، فإذا كان المنطلق إيمانياً، باعتبارنا كمسلمين، فنسميها مؤسسات المجتمع الإيماني أو الإسلامي،

وإذا كان المنطلق غير إسلامي فنسميها منظمات المجتمع الإنساني.

التسمية الأمثل للمجتمع المدني:

أما التسمية بمؤسسات المجتمع المدني فهي في تصورنا خاطئة من جهات عديدة:

منها: إن المدني يعني المنسوب إلى المدينة، وهذا يعني إن مؤسسات المجتمع المدني لا تحتضن (القروي) أو(البدوي) لأنها في مقابل (القروي) و(البدوي) وهذا خطأ كبير؛ لأن المجتمع المدني لا يتكون من أهل المدينة أو أهل الحضر فقط، بل إن أهل الريف وأن القرويين - وهم أحياناً أكثر من أهل المدينة- هم أعضاء في أسرة المجتمع المدني، فإنهم ليسوا خارج قوس الإنسانية ولا خارج دائرة المسؤولية، ولا خارج دائرة الحقوق والواجبات، وعليه فإن التسمية الأصح والأشمل هي(مؤسسات المجتمع الإنساني)، أو(مؤسسات المجتمع الإيمانی).

ولا يتوهم ان(المدني) هو قيد توضيحي وليس قيداً احترازياً؛ إذ الظاهر عندهم انهم يعتبرونه قيداً احترازياً، ولذلك نجد أحد الأعلام، الذي يحاول أن يفسّر المجتمع المدني، فانه يفسره بنقيضه ؛ لأن(التسمية) الخاطئة هي التي ضلّلته فيقول: (إنه مهما كان الاختلاف في تعريف المجتمع المدني فإن ما هو بديهي[1] هو أن المجتمع المدني أولاً وقبل كل شيء هو مجتمع المدن)، وهذا يعني أنه أخرج مجتمع الريف، وهم أحياناً بالملايين، وأحياناً بعشرات الملايين وأحياناً بمئات الملايين - كما في الهند والصين- كما أنه أخرج مجتمع البدو، وهذا هو الإجحاف بحق أولئك، وعين القصور في التقصير والتفكير، فأولئك

أيضاً صناع هذا البلد، وأولئك أيضاً لهم الحق في التصويت، وأولئك بسواعدهم يبنون هذا البلد ایضاً، سواء المزارعون أم غير المزارعين، فالبلد يعتمد عليهم، ثم هم - قبل ذلك ومع ذلك - أيضاً بشر.

وعليه، فإن ما يقوله بعض علماء الاجتماع من (فإنما هو بديهي، ولا يمكن أن يكون محل اختلاف، وأن المجتمع المدني أولاً وقبل كل شيء هو مجتمع المدن، وأن المؤسسات هي التي ينشؤها الناس بينهم في المدينة) يعاني من خلل منهجي وفكري رهيب؛ إذ إن كلامهم يعني أن المؤسسات التي تؤسس وتنشأ في الريف، أو في الصحارى أو في الغابات، كما لو أسسوا مؤسسة خيرية، أو(اتحاد المزارعين أو الصيادين) أو(جمعية البدو) أو غير ذلك، لا تعد من(مؤسسات المجتمع المدني) فلا يتمتعون بحقوهم، بل لا قيمة لهم، مع أن الأمر بالعكس؛ إذ تبنى على سواعدهم وأيديهم المجتمعات، وتنبنى الحضارة أيضاً.

فقولهم: (هي التي ينشؤها الناس بينهم في المدينة لتنظيم حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية) غير صحيح؛ إذ في بعض الدول يتواجد ٦۰٪ من الناس في القرى والأرياف، أو ۷۰٪ أو أقل أو أكثر، وهؤلاء لهم - ولابد لهم من - حياة اجتماعية واقتصادية وثقافية، كما انهم يحتاجون إلى مؤسسات، تحتضنهم وترعى شؤونهم، بل ان تطور الحياة في منظوره الاشمل لا يكون إلا بتطور القرية والريف، وبمستوى تطور المدينة أيضاً، وذلك بديهي وواضح جداً، لكن(التسمية الخاطئة) هي التي أوقعت كثيراً من الناس، والعديد من العلماء في مثل هذا الخطأ، كونها ناقصة وخاطئة، فالتسمية الصحيحة التي نقترحها كمسلمين هي (مؤسسات المجتمع الإيماني) أو الإسلامي، وإذا كان عالم الاجتماع أو المفكر غير مسلم فليسمها مؤسسات المجتمع الإنساني، كونها تنبثق من شعاع الإنسان والإنسانية، وترعى مصالح الإنسان.

هذا هو الخطأ الأول في(التسمية)، فضلاً عن خطأ آخر كبير أيضاً، فان البعض يصرح بقوله: (على النقيض تماماً من مؤسسات المجتمع المدني، وفي مواجهتها تقع المؤسسات الطبيعية، التي يولد الفرد منتمياً إليها، مندمجاً فيها، ولا يستطيع الانسحاب منها، كالقبيلة والطائفة) وهذا يعني بصريح عبارة عدد كبير من علماء (المجتمع المدني) انهم يخرجون العشيرة والقبيلة والطائفة من دائرة (مؤسسات المجتمع المدني) ولكن ذلك غير صحيح بالمرّة؛ إذ لا يجوز أن نخرج القبيلة أو الطائفة من مؤسسات المجتمع المدني، ذلك إنها هي التي یُبنیٰ على أكتافها المجتمع، وبها استقرار البلد وازدهاره، فهي التي تحافظ على (الأمن (في البلد، وهي التي تسهم في تنميته أكبر الاسهام.

وقد يقال: قد تكون العشائر أو الطوائف عامل فتنة ومنشأ اضطراب!

 إذ نقول: العشائر والطوائف، هي كالأحزاب والاتحادات تماماً، فإذا كانت صالحة، فستنهض بالبلاد، وإذا كانت طالحة ستخرب البلاد، ولا فرق في ذلك بين المجتمع الحضري أو القروي، كما لا فرق بين المجتمع الحزبي والمجتمع العشائري، كلها سيان، فإن تلك تنظيمات أو تجمعات إذا سارت في طريق بناء البلد، فالبلد يزدهر، وإلا فالبلد يتراجع وينكمش، وعليه فهذا الاصطلاح وهذا المصطلح في حد ذاته قاصر، ومصطلح ظالم، كما أن مؤسسات المجتمع المدني لها ظلال سلبية حضارية أخرى، وسنشير لها لاحقاً إن شاء الله. وسنعود إلى تعريفات المجتمع المدني في ضمن الفصول القادمة مراراً عديدة بالمناسبة بإذن الله تعالى.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،

وصلاة الله على محمد وآله الطاهرين.

* فصل من كتاب "معالم المجتمع المدني" في الفكر الإسلامي

والكتاب سلسلة محاضرات ألقيت في الحوزة العلمية الزينبية

http://m-alshirazi.com

http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/mortadashirazi.htm

.........................................

 [1] ونحن نقول: إن ما اعتبره بديهياً فانه لدى التبصر خلاف البديهة تماماً، وخلاف العقل والحكمة.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 6/آيلول/2014 - 10/ذو القعدة/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م