الإيديولوجية.. من قاموس الإمام الشيرازي

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: أطلق العالم صيحات فرح ممزوجة بالرغبة في رؤية عالم جديد بعد سقوط جدار برلين، واشارت اغلب التحليلات الى أننا دخلنا عصرا جديدا هو عصر سقوط الايديولوجيات، شرقية وغربية.. بتنوعاتها الرئيسية من ماركسية ورأسمالية، وتفرعاتها ذات النزعات القومية أو الوطنية.

لحظة سقوط جدار برلين، وان كانت لحظة زهو وانتصار الا انها في الوقت نفسه ابرزت على الساحة الدولية ايديولوجية رأسمالية اخذت بالتضخم والتمدد ومحاولة ابتلاع الاخرين جميعا، او اختراع اعداء جدد متوهمين لغرض تبرير عمليات الإقصاء والابتلاع.

كان الهلال الاسلامي هو العدو الجديد لتلك الايديولوجيا المنتصرة والخارجة من معارك كسر العظام مع الماركسية وشعارات المساواة والثورية والصراع الطبقي، وقد انساقت الكثير من الجماعات الاسلامية الى هذا الصراع بحكم الانفعال وردود الافعال، وحاولت ان تقدم ايديولوجية مغايرة لما سقط، لكنها كانت إيديولوجية تصادمية وعنيفة، أساءت الى متبنياتها ومرجعياتها الاسلامية، وبالتالي الى الإسلام نفسه.

تتفق معظم التعريفات ان الايديولوجية هي: هي مجموعة منظمة من الأفكار تشكل رؤية متماسكة شاملة وطريقة لرؤية القضايا والأمور التي تتعلق بالأمور اليومية أو تتعلق بمناحي فلسفية معينة سياسية بشكل خاص. أو قد تكون مجموعة من الأفكار التي تفرضها.

أما ديفيد جيري، وجوليان جيري، فيقدمان عدداً من التعريفات الخاصة بمفهوم الأيديولوجيا على النحو التالي:

1. أن الأيديولوجيا هي نسق من الأفكار يحدد السلوك السياسي والاجتماعي.

2. أن الأيديولوجيا بصورة أكثر تحديداً هي أي نسق من الأفكار يبرر خضوع جماعة أو طبقة ما، لجماعة أو طبقة أخرى، مع إضفاء نوع من الشرعية على هذا الخضوع.

3. أن الأيديولوجيا هي معرفة موسوعية شاملة، قادرة على تحطيم التحيز وذات قدرة على الاستخدام في عملية الإصلاح الاجتماعي.

وهناك من عرَّف الأيديولوجيا، بوصفها نسقاً من المعتقدات والمفاهيم، والأفكار الواقعية والمعيارية معاً. ويسعى هذا النسق في عمومه إلى تفسير الظواهر من خلال منظور يوجه ويبسط الاختيارات السياسية والاجتماعية للأفراد والجماعات. ويوضح هذا التعريف الدلالات الحيادية للأيديولوجيا، التي اكتسبها المفهوم من تعدد الأنساق الفكرية التي عملت على إظهار مدى التوازن بين الجانبين الواقعي والمعياري، بوصفهما يمثلان مقومات الأيديولوجيا.

تناولت هذه التعريفات جانباً أو أكثر من جوانب هذا المفهوم، بوصفه مفهوماً حديثاً، إلا أن التعريف الأكثر تكاملاً يحدد الأيديولوجيا بأنها "النسق الكلي للأفكار والمعتقدات والاتجاهات العامة الكامنة في أنماط سلوكية معينة. وهي تساعد على تفسير الأسس الأخلاقية للفعل الواقعي، وتعمل على توجيهه.

ولان الايديولوجيا نسق رمزي فهي تستخدم لأصناف اخرى، اجتماعية ونفسية ورمزية، وتكمن قدرتها على الإحاطة بالحقائق الاجتماعية وصياغتها صياغة جديدة؛ فهي لا تستبعد عناصر معينة من الواقع بقدر ما تسعى لتقييم نسق يضم عناصر نفسية واجتماعية ودينية... إلخ، مماثل للواقع الذي تدعو إليه الإيديولوجية.

هناك سؤال رئيسي تثيره الايديولوجيا هو: مدى فعاليتها في رسم صورة للواقع الاجتماعي وتقديم خريطة له وأن تكون محورا لخلق الوعي الجمعي.

ويحدد كارل مانهايم في كتابه "الأيديولوجيا واليوتوبيا" مفهوم الأيديولوجيا، من خلال مستويين: المستوى الأول هو المستوى التقويمي، أما المستوى الثاني فهو المستوى الدينامي. ويتعامل المستوى التقويمي مع الأيديولوجيا على أساس أنها تتضمن أحكاماً تُعني بواقع الأفكار، وبناءات الوعي. أما المستوى الدينامي، فيتناول الأيديولوجيا من خلال سمتها الدينامية، على أساس أن هذه الأحكام دائماً ما تُقاس من طريق الواقع، ذلك الواقع الذي يحيا في ظل تدفق ثابت أو جريان دائم. ويشير مانهايم إلى ما أسماه بالتشوه الأيديولوجي والوعي الزائف، أي التفسير غير الصادق الذي يضعه شخص ما. وهذا ما أكد عليه ديفيد هوكس من أن كلمة "أيديولوجيا" تشير أحياناً إلى طريقة خاطئة في التفكير على نحو نسقي، ووعي زائف.

الخصائص الأساسية للإيديولوجيا

حسب ويلارد مولنز فإن الخصائص الأساسية الواجب وجودها في الإيديولوجيا لكي تدعى بالتالي إيديولوجيا هي:

    يجب أن تكون لها سلطة على الإدراك.

    يجب أن تكون قادرة على توجيه عمليات التقييم لدى المرء.

    يجب أن توفر التوجيه تجاه العمل.

    يجب أن تكون متماسكة منطقيا.

يُعد دي تراسي أول من صك هذا المصطلح في عصر التنوير الفرنسي، في كتابه "عناصر الأيديولوجية".

في كتابه (مطاردة قرن ونصف) يتحدث الامام الراحل محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) عن الايديولوجية بما آلت اليه في الشرق او الغرب، ويؤشر لما اتفق عليه اغلب الباحثين من (إنّ عصرنا هذا هـو عصـر سقوط الإيديولوجيات)،  وهو الذي عاصر صراعاتها في المنطقة، وورث نتاجات بعضا من تلك الصراعات من خلال كونه سليل اسرة عانت من تلك الصراعات بين الايديولوجيات الشرقية والغربية من خلال الحكام الذين مثلوها، اضافة الى الايديولوجية القومية ونظامها البعثي في العراق، وهو اذ يكتب عن الايديولوجية وسقوطها انما يكتب عن بصيرة ورؤية نافذة الى العمق، وليس بقاءا فوق السطح او القشور.

ويضيف الإمام الراحل: (شاهدنا سقوط الماركسية، وشاهدنا عجز الإيديولوجية القومية في صراعها المرير مـع إسرائيل، وكان يفترض بالقومية أن تترك مكانها للإسلام حتّى يمكن فتح جبهة عريضة في قِبال الصهيونية العالمية، وقد شاهدنا كذلك الإيديولوجية البعثيّة التي لم تتمكّن من مقاومة الدين الطبيعـي للناس الذي هـو الإسلام ، وازداد العراق بهذه الإيديولوجية تأخراً وتحطّماً مما هو مستمرٌ إلى الآن).

ما كان يفترض ان يحدث ولم يحدث والذي تطرق اليه الامام الراحل، هو الوصمة التي الصقت بالإيديولوجية، وهي وصمة سوء استمدت عثراتها وخرابها وقصورها من الايديولوجيات المتعددة والتي سقطت وهي كما يصنفها الامام الراحل (الإيديولوجيـة الشيوعية والبعثيـة والنازية والشوفينية والفاشية).

ما هو البديل لكل تلك الايديولوجيات ومساوئها؟

انه الاسلام حسب الامام الراحل، لكنه ليس الاسلام الذي قدمته الكثير من الحركات السياسية الاسلامية والجماعات الجهادية، والتي الحقت الضرر بالإسلام نفسه، انه الاسلام الاول الذي  (مصدره الوحـي وأنّ المطبِّق لـه هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمـير المؤمنين (عليه السلام) حيث إنّهما قاما بنشر العـدل والإخاء ، بتطبيقهما الصحيح للإسـلام ، خلافاً لممارسات البعض ممّن شوّهوا الإسلام بتطبيقهم الفاشل).

التطبيق الصحيح والمتأت من الفهم الواعي والمدرك لهذا الاسلام، هو الايديولوجية التي تعلو على كل الايديولوجيات المتعارف عليها، ومن اوجه التمثل الصحيح لهذه الايديولوجية الاسلامية كما يذكر الامام الراحل (فقـد بلـغ التسامح برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه جعل اليهود أمّة مع المسلمين، كما ورد فـي الصحيفة التي هي أوّل دستور للدولة الإسلامية ، وكان (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليّناً حتى مع أعدائه الذين شهروا السلاح بوجهه).

وفي مجال الحرّية يسترشد بقوله تعالى: (لا إكراه في الدين)، وقول السيّد المسيـح (عليه السلام) : (ولا تكونـوا علمـاء جبّـارين فيذهب باطلكم بحقّكم)، اما هذا الوصمة التي الصقت بالإسلام وتعاليمه فيعزوها الامام الراحل الى بني أميّة وبني العبّـاس وبني عثمان الذين طبقوا الإسلام على أهوائهم، ولذا ظنّ الناس أن الإسلام هو ما طبّقه هؤلاء الحكام، وهذا ما جعل من الإسلام تلتصق به تلك الوصمة المشوهة.

يخلص الامام الراحل الى ان (الإيديولوجية الإسلامية بالمعنى الذي أوردناه هـي الموافقة للعقل والفطـرة ؛ وكلّ إنسان عاقل يميل إلـى هـذه الإيديولوجية خلافاً للإيديولوجيات الأخرى كالشيوعية وأضرابها التي لـم تطابق الفطرة؛ والكلّ نافرٌ متبرمٌ منها).

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 27/آب/2014 - 30/شوال/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م