أزمة الحضارة... من قاموس الإمام الشيرازي

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: الحضارة بمفهومها الذي رست عليه لم يظهر الا في القرن الثامن عشر ومع عصر التنوير في أوروبا، وارتبط بالتمييز بين شعوب متحضرة وشعوب همجية، ولتمييز الهويات الخاصة، مما كان يعني إقصاء الآخر أو الانتقاص من شأنه، ومع هذا التمييز تطورت ثنائية «نحن/ هم» وثنائية «متحضر/ همجي».

من فلاسفة الغرب ومفكريه الذين اهتموا بمفهوم الحضارة يمكن ايراد عدد من تعريفاتهم، يرى "ول ديورانت" صاحب "قصة الحضارة"، أن الحضارة نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة في إنتاجه الثقافي، وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه إذا ما أمن الإنسان من الخوف، تحررت في نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها.

وذهب فريق من العقلانيين إلى أن الحضارة مرادفة للعقل نفسه، إذ هي في أحسن الأحوال ثمرات العقل، في حين قال آخرون: إن الحضارة هي الاقتصاد.

وتعريف الحضارة عند "وليم هاولز"، هي كل ما يساعد الإنسان على تحقيق إنسانيته.

وربط "أرنولد توينبي" الحضارة بالكنيسة الكاثوليكية، مدعيًا أن الحضارة الغربية هي وحدها التي تحافظ على "الشرارة الإلهية الخلاقة"، وهي وحدها القادرة على أن تؤول إلى ما آلت إليه سابقاتها. وقد حدد معالم الحضارة بقوله: "إنها حصيلة عمل الإنسان في الحقل الاجتماعي والثقافي، وهي حركة صاعدة، وليست وقائع ثابتة وجامدة، إنها رحلة حياتية مستمرة لا تقف عند مينائها.

ويخالف "رجاء غارودي" ما ذهب إليه "توينبي" عن خلود الحضارة الغربية المسيحية في كتابه "حوار الحضارات"، ويؤكد أطروحته تلك ويزيدها بيانًا في كتابه "وعود الإسلام". فهو يبدأ بهذه المصادرة = الغرب عرض طارئ.

ويتحدث عن الحضارة الغربية قائلاً: "وأنا أطلق عبارة "الشر الأبيض" على هذا الجانب من الدور المشؤوم الذي نهض به الإنسان الأبيض في التاريخ.

ان هذه الأزمة التي يعيشها الغرب, إنما ترجع في جذورها حسب رأي غارودي, إلى عصر النهضة, الذي ولدت معه الرأسمالية والاستعمار معاً, وما صاحبه من تنكر وهدم لجميع الثقافات غير الأوروبية, فقد اتبعت الحضارة الغربية في نموها وتقدمها من القرن السادس عشر وحتى نهاية القرن العشرين, طريقة أوصلتها كما يعتقد غارودي, إلى أزمة داخلية عميقة, حدودها في ثلاثة أبعاد رئيسية, شرحها في كتابه: (حوار الحضارات), وهي:

1ـ رجحان جانب الفعل والعمل, بالشكل الذي يتحول فيه الإنسان إلى مجرد آلة للإنتاج والاستهلاك, ويفقد جوهره المعنوي والأخلاقي.

2ـ رجحان جانب العقل, واعتباره قادراً على حل جميع المشكلات, بحيث لا توجد مشكلات حقيقية إلا تلك التي يستطيع العلم حلها, والنتيجة بعد ذلك هي عدم القدرة على تحديد الغايات الحقيقية,والسيطرة على الوسائل.

3ـ رجحان جانب الكم, وجعله معياراً ومقياساً لا نهائياً, بحيث يصبح النمو باعتباره نمواً كمياً صرفاً في الإنتاج والاستهلاك.

ويرى غارودي أن حضارة تقوم على هذه الأبعاد الثلاثة, إنها حضارة مؤهلة للانتحار.

وقبل "غارودي" قام الألماني "أوزوالد شبنغلر"، بالتبشير بانهيار الحضارة الغربية في كتابة "انهيار الغرب"، الذي أصدره عقب الحرب العالمية الأولى. وأما "ألكسيس كاريل"، فيتحدث عن الحضارة الغربية المعاصرة في كتابه "الإنسان ذلك المجهول" قائلاً: "إن الحضارة العصرية تجد نفسها في موقف صعب، لأنها لا تلائمنا، فقد أنشئت دون أي معرفة بطبيعتنا الحقيقية، إذ إنها تولدت في خيالات الاكتشافات العلمية، وشهوات الناس وأوهامهم ونظرياتهم ورغباتهم، وعلى الرغم من أنها أنشئت بمجهوداتنا، إلا أنها غير صالحة بالنسبة لحجمنا وشكلنا.

تعيش الحضارة الغربية في ازمة طاحنة، منذ بدايات القرن العشرين وحتى الان، ويعود ذلك براي المختصين الى عدة اسباب منها:                  

الخواء الروحي : فالتعليم صار أُحادي الجانب أو يجنح إلى إعلاء شان التقنية على حساب الروح ".

سيادة الثقافة الجماهيرية :فإذا كانت الثقافة الأصيلة تنحو تجاه الفرد فالثقافة الجماهيرية تصب في الاتجاه المعاكس، نحو التماثل (صب الأرواح في قوالب متماثلة) عكس الثقافة الأصيلة التي تسعى لخلق الحرية الإنسانية والتي في صميمها مقاومة التماثل  وآلة تعليب العقول الكبرى هي التلفزيون .

العلم والتكنولوجيا : يقول آرثر ميللر: إني اعتقد أن المشكلة- في وضعها الراهن- هي نتاج التكنولوجيا التي دمرت الإنسان كقيمة في ذاته...باختصار لقد اندثرت الروح وتلاشت ومن ثم ظهر المسرح المتشائم وكثرت المذاهب العدمية في أكثر المدن تقدما. أن التقدم التقني هائل لكنه لا يعني أن الحياة ستكون أغنى آو أسعد آو أكثر إنسانية.

حضارة استهلاكية تستنفد الموارد الطبيعية: ازداد تكديس الأشياء وربما لو نظر الأنسان في نفسه، في بيته ووازن بين الضروري من حاجاته والكمالي منها لتبين له ان الكمالي – من حيث يظن ضروريا- فاقت كميته الضروري وتزداد حاجتنا كلما لبيناها .ولكن هل حقق الاكتفاء؟ من سمات الحضارة إنها تخلق في الإنسان ضرورات متجددة وتغري الإنسان بالحياة البرانية على حساب حياته الجوانية . شعارها " انتج لتربح واربح لتبدد " هذه سمة في جبلة الحضارة. فالحضارة الغربية تعيش حالة من اللهاث وراء الاشباع.ويمكن رؤية آثار هذا التغول المادي في جوانب كثيرة من حياتنا.

من مظاهر الأزمة كثرة العمران وامتداد المدن وشدة استقطابها لمتساكنيها لكنها تصنع إنسانا ميتا يختلف عن ذلك الذي يشاهد السماء المنقوشة بالنجوم والحقول الخضراء،انه انسان آلي يمارس مشاعر الاثارة في مباراة حامية لكرة القدم أو الملاكمة هو ألي ميت.

والأدلة كثيرة التي تؤكد موت الإنسان من خلال ارتفاع نسب الانتحار والجريمة والعنف والخوف والأمراض العقلية والنفسية ،وقد صارت الكحول والمخدرات والإباحية ملاذا للاغنياء بعد ان كانت ملاذ الفقراء وذلك بسبب الكبت والحياة الآلية السائرة على وقع : {نوم-قطار-عمل} يسعى الغني والفقير - وهم أسرى هذه الآلة الرهيبة - للهروب بالأشباع في هذه الإثارة الرخيصة.

ويمكن اختصار تلك الازمة بما يقوله فيرنر هايزنبرغ : نعيش اليوم في عالم قد غيره الانسان إلى حد بعيد , بحيث لا يواجه أينما ذهب سوى البنى التي أنشأها , فهو بذلك لم يعد يلاقي إلا نفسه.

أزمة الحضارة، كتب عنها الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) في كتاب له حمل عنوان (مطاردة قرن ونصف) يذكر في احدى فقراته: (اختلف الغربيون والمحللون السياسيون في سبب أزمّة الحضارة إلى أقوال ، وإنْ كان الكلّ متّفقين على وجود أزمة خطيرة يمكن أن تؤدي بالحضارة إلـى الانهيار إن لم تعالج ، ولكنّ كلّ ما ذكروه من أسباب تعد جزئية وعللاً غير واقعية). وهي الأسباب التي ذكرناها في السطور السابقة.

يحدد الامام الراحل ازمة الحضارة الحالية في (الابتعاد عن الدين والقيم السماوية).

وهو ابتعاد نتلمس مظاهره الكثيرة وخلله الفادح في الكثير من المشاكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، التي تكاد تضغط على العالم وتطحنه.

الحضارة الحديثة ومأزقها، لايكفي القول انها يمكن ان تتجاوز ذلك المازق عن طريق العلم الذي تستند اليه، فهو على حد تعبير الامام الراحل (غير كافٍ في حفظها) ، لان هذا العلم الذي تستند عليه (يكفي فـي الرقابة الظاهرة)، لكن الحياة غير قائمة على الظاهر فقط بل الأمـر بحاجة إلى الباطن أيضاً ، كما يعبر الامام الراحل، وهذا الباطن هو (الدين والإيمـان بالله واليوم الآخر وهـو وحده الذي يكون رقيباً في الظاهر والباطن ، وأما غيره من القانون والشرطة والرقابة ـ بالأحزاب وغيره ـ لا يمكن أن يحفظ الباطن).

واذا كان توينبي قد اعتبر الدين المسيحي هو الشرارة لحفظ الحضارة، فان الامام الراحل لا يتفق مع ذلك، لان مايدين به الغرب المسيحي هو النسخة المشوهة لدين وشريعة النبي عيسى عليه السلام، ومن قبله دين وشريعة النبي موسى عليه السلام، ولايمكن لدين مشوه عند اتباعه ان يكون تلك الشرارة التي تحافظ على الحضارة.

ان ما يمنحه الاسلام للمؤمنين به، وحسب الامام الراحل هو (العامل الأقوى الذي يحصّن الناس من الانزلاق في متاهات المفاسد ، لأنّه يؤجج في الإنسان مشاعر الخوف مـن الله ومن اليوم الآخر).

والسلطة في البلدان الغربية وعبر قوانينها التي تشكل اعمدة حضارتها، وهي في الوقت نفسه، عامل انهيارها بتغييب او غياب او تحييد الدين، (لا يمكنها مهما كانت قاسية أن تكون رادعـة ومانعة من انهيـار روح الإنسان وانسياقه وراء الملذّات)، كما يقول الامام الراحل.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 20/آب/2014 - 23/شوال/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م