في التغيير الذاتي..

الديكتاتور ومساعيه لتطويع القانون

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: القانون في الدول المتحضرة والمتقدمة، أمرٌ محترم وذو شأن، لأنه يضمن حقوق الناس وينظم العلاقة بين المجتمع والدولة، وبقدر احترام الطرفين للقانون والتزامهما به، تكون منزلته ومكانته ثم دوره الأساس في تكريس الحياة الآمنة والمستقرة. ومن اجل ذلك يدعو البعض الى "الدولة المدنية" او "دولة المؤسسات الدستورية" او إفساح المجال أمام منظمات المجتمع المدني، كونها تساعد على نشر مبادئ وقيم تخدم الإنسانية، كما تسهم في تكريس واقع الأمن والاستقرار في الدولة، مثل الحرية والعدل والمساواة.

أما في الدول التي تعاني أزمة "الديمقراطية" نلاحظ عجز القانون عن أداء دوره بشكل صحيح، فهو لابد منه في جميع بلاد العالم، ولدى مختلف الانظمة السياسية، بيد انه يتحول في الانظمة الديكتاتورية من "روح" الى جسدٍ خاوٍ، وهنا نكون امام شعارات وإدعاءات فارغة، وليست روح نابضة تمنح الناس الحياة. وهذا ما يحذر منه سماحة الامام الراحل السيد محمد  الحسينين الشيرازي – قدس سره- في كتابه "ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين" في فصل خاص عن "الديكتاتورية"، حيث يعد "انحراف القانون من مآسي الديكتاتورية".

ورب سائل عن سبب إثارة هذا الموضوع، وبهذا النوع من الطرح، فالقانون، يعد من الأمور الايجابية والضرورية في الحياة، ومنذ أمد بعيد كان القانون أحد ابرز مفاخر البشرية ومن علائم تقدمه وتحضره عبر التاريخ؟.

نعم؛ انه من حيث المبدأ، امرٌ حسن، ووجوده ينمّ عن وعي المجتمع لتنظيم شؤونه وعلاقاته، بل ان الجميع يدعو له ويطالب به، بيد أن هذه السمة هي التي تحوله من وسيلة ايجابية وبناءة للشعب والدولة، الى وسيلة لتحقيق مكاسب شخصية وحزبية وفئوية، وهذا ما نلاحظ يحصل بشكل لا نقاش فيه في بلادنا.. لنأخذ مثالاً على ذلك؛ رواتب التقاعد والامتيازات الفاحشة التي تقاضاها مسؤولوا الدولة في العراق خلال العشر سنوات الماضية، ولتفريغ شحنة الغضب الجماهيري تم الالتفاف على "القانون" لسن قانون تقاعد جديد عبر مجلس النواب، تحت عنوان "قانون التقاعد العام" ويشمل جميع افراد الشعب العراقي، بمن فيهم النواب الوزراء والمسؤولين، وتضمن رواتب تقاعدية مجزية لهؤلاء "المسؤولين"، مع انفجار الغضب الجماهيرية ثانية على محاولة الالتفاف المكشوفة. لكن في كل الاحوال، لن يتقاطع قانون التقاعد مع مصلحة هؤلاء، ما داموا هم من يرفعون ايديهم بالموافقة ويسنون القانون تحت قبة البرلمان، ومن هذا البرلمان تتشكل الحكومة التي لن يكون حالها وتعاملها مع القانون بأفضل منها.

وهكذا يتحول القانون الى وسيلة وهدف للحاكم لضمان فترة أطول في الحكم، وهذا يحتاج الى معايير خاصة تنسجم مع الشكل الجديد لهذا القانون، وبما انه يتعذر في بلادنا اجتماع مصلحة المواطن مع مصلحة الحاكم في اطار قانون واحد، نرى أن القانون في ظل حكم الفرد او الجماعة (الديكتاتورية)، يظهر خلال حفلات الاستقبال الجماهيرية المعد لها سلفاً، حيث التصفيق والهتافات والشعارات، كما يظهر من خلال مفهوم "الولاء"، فمن له القدرة والإمكانية على تجسيد ذلك في مواقفه وسلوكه وأعماله، كان اكثر قرباً من القانون، أما سائر الناس، فنلاحظ ان عليهم تطبيق القانون بحذافيره، وبكل تفاصيله، وهذا يفسر ظاهرة السير غير الطبيعي لمواكب المسؤولين في الشوارع، وطريقة تمشية معاملات المسؤولين في الدوائر الحكومية، او تأمين أعمال ومتطلبات المتعلقين بهم، من اولاد وأقارب وهكذا..

لذا ينبه سماحة الامام الشيرازي على ان من سمات "الدولة الاستشارية الاهتمام بالكفاءات والمؤهلات، فهي التي تأتي بالموظفين..". والعكس نلاحظه في الدول الديكتاتورية، حيث المحسوبية والمنسوبية وتفشي الفساد الاداري. وربما لا نجانب الحقيقة، اذا قلنا إن صعوبة مكافحة الفساد الاداري والمالي في هكذا انظمة يفسر "القراءة الديكتاتورية" للقانون، فكما ان الجميع يتحدث باسم القانون، فان الجميع ايضاً يدعو الى مكافحة الفساد والانحراف، لكن عندما يكون هذا القانون في خدمة شخص معين او جهة سياسية، فانه يفتح الطريق واسعاً لاستحصال المزيد من المكاسب وتحقيق المصالح.

فما الحل؟

ليس بالضرورة ان نكون امام طريق مسدود، ما دمنا ننشد مستقبلاً مشرقاً في ظل التجربة الديمقراطية، واول خطوة في انتخاب الناس من يمثلهم في البرلمان والحكومة، والخطوة الثانية يجب أن تكون في تحكيم القانون السليم والمستقيم على اساس القيم والمبادئ، وليست المعايير التي يأتي بها هذا المسؤول او ذاك. هذه المبادئ قد لا يصدح بها شخص ما على منصة الخطاب او يدونها ويطرحها في وسائل اعلامه، انما هي في ضمير الناس، نظراً للعلاقة الوثيقة والفطرية بين القانون والانسان، وهذا ما يشير اليه سماحة الامام الشيرازي، عندما يصف حالة  القانون السليم، بان الناس يتعاملون في ظله " حسب الروح لا حسب القانون، والسر أن القانون من ولائد الروح فإذا كان القانون مستقيماً وتعارض مع الروح كان المرجع الروح ولذا إذا رأى الناس أن إنساناً أثرى أكثر مما يمليه الروح كانوا أعداءً له وإن تذرّع بالقانون، وهكذا في سائر الشؤون..".

ماذا تعني الروح؟ وكيف تضمن للناس حقوقهم؟

اذا عرفنا كيف يكون القانون ذو روح وحيوية ومرونة، يتفهم الواقع والظروف، سيكون من السهل الاجابة الى السؤالين..

سماحة الامام الراحل يضيء لنا طريقاً مستوحاة من القرآن الكريم وسيرة المعصومين، عليهم السلام، عندما يؤكد على مبدأ "الإنصاف" في التعامل مع قضايا الناس وحاجاتهم. فالقانون ليس بوسعه تحقيق حاجات ومصالح الناس في كل الاحوال، انما يحتاج الامر الى تكييف وتطويع المسؤول نفسه – وليس القانون- لأن يقرب المواطن مصالحه وحاجته، لاسيما في الظروف الحرجة، كما يحصل ذلك في معظم الحواجز الامنية عندما تصادفهم سيارة تحمل إمرأة حامل او مريض في حالة خطرة  وذلك في ساعة متأخرة من الليل مع قرار حظر التجوال، فيتم التعامل مع الامر بليونة وتفهم كاملين. وهذا ما يجب تعميمه على كل مرافق الدولة، ولو هو امر عسير وبحاجة الى طول أناة وصبر وتجلّد، بالمقابل النتيجة باهرة وايجابية للغاية، وهي الحؤول دون تنامي ظاهرة الحكم الفردي والديكتاتورية واستفراد الحاكم ليس بالحكم فقط، إنما بالقانون وحتى الدستور لتحقيق مصالحه الخاصة ومصالح جماعته دون مصالح عامة الشعب.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 9/آب/2014 - 12/شوال/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م