رؤية اقتصادية لمستقبل التعليم العالي

حاتم حميد محسن

 

يتنبأ خبراء الاقتصاد بالتغيرات التي ستبرز من التقاطع بين التحولات الاقتصادية الكبيرة من جهة والابتكارات في مجال التعليم الالكتروني من جهة اخرى. غير اننا سنركز حاليا على امتيازات الرواتب الخاصة بخريجي الكليات.

يدور النقاش حاليا حول مسألة جوهرية وهي ان هناك مجموعة عوامل ستجعل التغيير الكبير في سوق التعليم العالي امراً حتميا. القضية ببساطة هي ليست ان تكاليف الدراسة الجامعية تتصاعد او ان التعليم الالكتروني يتحسن، فهذه الاشياء حقيقية. بل ان المسألة هي ان تلك الميول تحدث بسبب التغيرات في المردود المتوقع من التعليم العالي.

وكما ترى مجلة الايكونومست في عددها ليوم 2 تموز 2014، ان مردود التعليم الجامعي لايزال عاليا، حيث تصل قيمته الحالية الى 590 ألف دولار للرجل و370 ألف دولار للمرأة(1). غير ان هناك تفاوت كبير يكمن وراء هذه الارقام. طبقا لأحدى التقديرات، فان مخصصات الاجور للحاصل على بكالوريوس في الهندسة هي أعلى ثلاث مرات من مخصصات حامل البكالوريوس في العمل الاجتماعي. مخصصات الاجور للبكالوريوس المتقدمة قياسا بالباكالوريوس العادية ارتفعت من لا شيء عام 1960 الى ما يقارب 30% حاليا. تختلف مخصصات الاجور ما بين الذكور والاناث، تبعا للمؤسسة المصدرة للشهادة والمكان الذي يعيش ويعمل به المتخرج— علاوة الاجور تكون عالية جدا في المدن الكبيرة وذات المهارات العالية.

 ان معدل المردود من التعليم الجامعي هو كبير، لكنه ايضا مشروط وغير مؤكد. حالة عدم اليقين هذه هي في تزايد. بين الاعوام 2000 و2010، كانت مخصصات اجور الكلية ثابتة بعد 30 سنة من النمو البطيء. الاستقطاب في قوة العمل وزيادة التفاوت في الدخل يعني ان مسارات العمل اصبحت واضحة تماما ولا توجد هناك مفاجئات، حيث ان الموظف اما ان يستلم اجور اكثر من حاجته لتغطية تكاليف الدراسة او انه يعاني بشكل دائم من صعوبات مالية.

المستقبل سيشهد ظروف اشد صعوبة في سوق العمل مقارنة بتقديرات الماضي. حيث ان التقدم التكنلوجي سيقود الى مزيد من التفاوت بين الاغنياء وبقية افراد المجتمع، وستكون الوظيفة التي يشغلها الفرد تمتد فقط لفترة قصيرة مع حاجة مستمرة لإعادة التدريب لغرض العثور على عمل.

الاستنتاج من كل ذلك هو انه من الصعب الشعور بالاطمئنان بان إنفاق آلاف او عشرات الالاف او ربما مئات الالاف من الدولارات على برنامج دراسي جامعي قبل ممارسة العمل سيكون خياراً ملائما، حتى لو كان هناك مردود كمتوسط من تعليم الكلية. مقابل هذا نجد، عاملي الكلفة الواطئة ومرونة التعليم الالكتروني هما اللذان يعطيان الافضلية لهذا التعليم. البدء بكورس اون لاين هو اقتراح قليل المخاطرة جدا. ذلك يصح سواء كان الشخص يهتم ببدء دراسة جامعية اولية او متقدمة او يختار التعليم المستمر. فهو يمثل حقيقة بالنسبة للكلفة النقدية وكلفة الفرصة. ترك المرء لوظيفته ليبدأ دراسات عليا هو اقتراح مكلف حتى قبل موعد استحقاق تسديد الرسوم الدراسية.

ولهذا السبب من السهل رؤية مصدر الطلب على التعليم الالكتروني، ومن السهل رؤية كيف ان الطلب العالي على التعليم الالكتروني سيقود الى تحسين في النوعية ووفورات الحجم الاقتصادي Scale economies. الخبراء لاحظوا لو ان الجامعات وفي غضون فترة 10 الى 20 سنة قادمة، واجهت نفس الظروف التي واجهتها الصحف اليومية في السنوات العشر او العشرين الماضية، فان العائد سيهبط باكثر من نصف، والعمالة في هذا القطاع ستنخفض بنسبة 30%، وستضطر اكثر من 700 مؤسسة لإغلاق ابوابها.ربما يجيب المرء ان التعليم العالي هو تجربة تفاعلية واجتماعية اكثر تعقيدا من قراءة الصحف اليومية، ولهذا يجب ان يكون اكثر مرونة امام المنافسة الالكترونية. ذلك ربما صحيح. لكن من جهة اخرى، الصحف اليومية هي رخيصة ومخاطرتها المالية في حصولها على اشتراكات القراء والمحافظة عليها ربما تقترب من الصفر. العديد من الناس استمروا بدفع الاشتراكات لفترة قصيرة حتى مع زيادة استهلاكهم للاخبار الالكترونية المجانية. من الواضح ان التعليم الالكتروني هو بديل وليس مكملا للتعليم التقليدي.

ربما من السهل الانشغال بالحديث التكنلوجي- الطوباوي عن مستقبل التعليم الالكتروني، وبنفس الدرجة يسهل التركيز على مقدار الضعف في التعليم الالكتروني كبديل عن تجربة التعليم التقليدي (الذي يميل فيه الخريجون لتضخيم قيمته عبر تمجيدهم المفرط للماضي). وبالطبع، من غير المؤكد ان تعليم الـ Moocs (كورسات الكترونية مفتوحة كبيرة) سيحطم تماما المؤسسات التعليمية القائمة خلال الجيل القادم. لكن من السهل رؤية الكيفية التي ينمو وينضج بها التعليم الالكتروني كلما فكّر طلاب الجامعة بالقرارات الصعبة التي يواجهونها.

يجب ان نتذكر، شيئا هاما، وهو ان الاستثمار في التعليم لا يشبه لعبة الروليت. التعليم العالي الفعال والرخيص والمرن والمتوفر لكل شخص في العالم هو سلعة تستطيع التكنلوجيا توفيرها خارج مفهوم المعجزة. لذا فان المهم هو ليس الالتفات الى الخسارة الناتجة عن التغيير في التعليم العالي وانما مناقشة ما يجب ان يُنجز لتعظيم المنفعة.

..................................

الهوامش

1- هذه الارقام تعني القيمة الحالية لمجموع الرواتب المتوقعة التي يستلمها المتخرج او المتخرجة طيلة سنوات الخدمة.

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 4/آب/2014 - 7/شوال/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م