في التغيير الذاتي.. لنعود إلى آيات القرآن المنسية

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: في أيام وليالي شهر رمضان المبارك، يكون لتلاوة القرآن الكريم طعمٌ خاص، فالأجواء الروحانية والسكينة في النفوس، تجعل شريحة واسعة من الناس يتوجهون لتلاوة الكتاب المجيد، والسعي لتحقيق الختمة خلال هذا الشهر الفضيل، وربما اكثر من ختمة واحدة، ثم لنا موعد آخر مع القرآن الكريم، في ليالي القدر، حيث نرفعه على رؤوسنا، وندعو: "بِكَ يا الله..". هذا وغيره يفسر لنا حديث الإمام الباقر عليه السلام، "لكل شيء ربيع، وربيع القرآن شهر رمضان".

هذا هو واقع القرآن الكريم، ربيع واخضرار ثم عطاء دائم، مثل الشمس، تشرق على كل يوم جديد، بيد ان نظرة سريعة على واقعنا الذي نعيشه، نلاحظ الجدب والأزمة في جوانب عديدة من حياتنا، فهنالك أزمة خانقة في الحرية والعدالة والمساواة والأخلاق.

فكيف يكون ذلك؟!. كتاب مجيد يكون بين أيدينا، وهو الكتاب السماوي الوحيد الذي حفظه الله من أي تحريف او تزوير كما حصل للكتب السماوية الاخرى. فهو كنز عظيم يحمل كل اسرار السعادة للانسان، ثم يعيش هذا الانسان الشقاء والضياع والأزمة في كل شيء.

السر في ذلك يكشفه سماحة الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- في كتابه القيم: "شهر رمضان، شهر البناء والتقدم". وهو يسلط الضوء على مشكلة يقع فيها البعض عندما يأخذون ببعض الكتاب ويتركون بعض. والنتيجة تكون تهميش ونسيان آيات عديدة في القرآن الكريم من شأنها ان تكون عوامل نهوض وتقدم وسعادة للمسلمين بل حتى البشرية جمعاء. طبعاً؛ هنالك آيات عديدة تسبب نسيانها وإقصائها من واقعنا، إلى سقوطنا في مستنقع واسع من الأزمات، بيد أننا نذكر بعضاً منها، كما جاء في كتاب سماحته:

آية الشورى (الديمقراطية)

من المثير حقاً، أن نلاحظ الآية القرآنية الكريمة: {والذين استجابُوا لِربّهم وأقاموا الصلاَة وَ أمرهُم شُورَى بينَهُم وَ ممَّا رزقناهم يُنفقون}، تعتلي جدران العديد من البرلمانات في البلاد الإسلامية، وهو بحد ذاته إقرار على أسبقية القرآن في مسألة الديمقراطية والمشاركة السياسية والتداول السلمي للسلطة، لكن مع ذلك، نجد مظاهر الديكتاتورية والاستبداد بالرأي لدى بعض الحكام – إن لم نقل جميعهم- منتشرة في كل مكان، ليس فقط في المجال السياسي، بل حتى في مجال الامن والخدمات والتعليم وغيرها.

وقبل ان تكون الديكتاتورية، الفيروس الذي ينتشر في جسد الامة، فان "الشورى" يقدمه لنا القرآن الكريم، على أنه من عوامل استقرار وتقدم الامة. وهو ما يشير اليه الامام الراحل، حيث يبين سماحته أن مفردة الشورى جاءت ضمن سياق الآية بحيث "جعل الله الشورى بين الصلاة والانفاق، والصلاة هي ركن العبادة وعمود الدين، وهي السبيل لبناء الشخصية الإسلامية. اما الانفاق فهو السبيل لتقدم المجتمع وإقامة نظام اقتصادي اساسه العدل. وبين الواجبين ـ واجب الصلاة وواجب الانفاق ـ هناك واجب ثالث هو الشورى. والشورى قاعدة في نظام الحكم وفي النظام الاجتماعي، وبدونه لا يقوم للمجتمع قائمة"

آية الحرية

وهذه آية اخرى من المنسيات التي هي الاخرى تسجل مفارقة بين الادعاء وبين الواقع الذي نعيشه، فلا احد يتخلف عن الادعاء بمطالبته الحرية والسعي لتحقيقه، بينما نجد القليل من يؤمن بأحقية هذا الأصل الانساني للجميع، كما يكشف القرآن عن هذه الحقيقة في الآية الكريمة: {وَيضَعُ عَنهم إصرَهم والاغلال التي كانت عليهم}.

ربما يتذرع البعض بعدم وجود تفسير يتوافق مع العصر الراهن لمفهوم "الحرية"، وكيفية ايجاد تطبيقاته على الارض بشكل يخدم الجميع، وهذا ما يجيب عنه سماحته بكل سهولة، بوجود الخط الاحمر لهذه الحرية، وهي "المحرمات"، إلى جانب قواعد في علم الفقه يتداولها العلماء، اساسها احاديث المعصومين، عليهم السلام، منها الحديث الشريف: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام". بمعنى أن القرآن الكريم عندما يتحدث عن الحرية ومكافحة العبودية، فانه بالحقيقة يقدم الحلول لعديد الأسئلة والاستفهامات في العلاقات بين افراد المجتمع فيما بينهم، وفي العلاقة بين المجتمع والدولة.

ومن الموارد الممكن الاستفادة منها في ضوء القرآن الكريم، الحرية الفردية والحرية العامة التي أجهدت الشعوب والامم حتى تمكنت من تدوين ما يسمى اليوم بـ "الاعلان العالمي لحقوق الانسان"، وهذا مايشير اليه سماحته بان في الاسلام "حرية تكوين الاحزاب، و إقامة المؤسسات الدستورية، وسنّ القوانين المتناسبة مع اهداف المجتمع الإسلامي. وحرية التجارة وحرية ممارسة الأنشطة الاقتصادية المختلفة من زراعة وصناعة وعمارة وطبع ونشر، واستفادة من المباحات أرضاً كانت أو غيرها. كذلك الحريات الشخصية التي لا تتعارض مع الاحكام الشرعية كحرية السفر والاقامة والعمل..".

آية السعي

واذا جاز لنا التعبير، بالامكان تسميتها بآية "الانتاج" والعمل والنشاط.. ورغم أن التصريح واضح والدعوة مباشرة لأن يحقق الانسان مبتغاه في توفير مستلزماته وراحته، فان انسان اليوم يعاني الأمرّين، من البطالة والحرمان، {يا أيها الانسان انك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه}، والآية الكريمة الاخرى: {وأن ليس للانسانِ الاّ ما سعى وَأنَّ سعيَهُ سوفَ يُرى}. وهنا يسلط سماحة الامام الراحل على نقطة مهمة في الانتاج، وهي تحقيق الانتاج "في الجانبين الكم والكيف"، فعلى الجميع التفكير بالانتاج، في مختلف مجالات العمل، سواءً في الصناعة او الزراعة او أي عمل آخر، "وعندما يزداد الانتاج ينتعش المجتمع، وعندما يتحسن الانتاج يحصل الاكتفاء الذاتي، والحصيلة هي التقدم في كل المناحي وعدم الاحتياج إلى الأجانب".

وجود هذه الآيات الكريمة (المنسية) وغيرها كثير، بين دفتي الكتاب المجيد، والواقع المرير الذي نعيشه، يكشف عن حقيقة اخرى، وهي الصعوبة البالغة التي يجدها البعض في استذكارها، بينما هنالك سهولة، بل وهرولة – بالحقية- نحو نماذج وخيارات لحلول هنا وهناك. فالحرية والانتاج والديمقراطية وغيرها، نبحث عنها في تجارب وقعت ما وراء البحار وفي البلاد البعيدة، بينما هذه المفاهيم جاءت في كتاب سماوي يغبطنا عليه العالم وهو {بلسان عربي مبين}. مع ذلك يرتكب البعض جريمة التناسي والتهميش بحق نفسه، فمن يتناسى هكذا آيات عظيمة، هي حلول جاهزة للأزمات، فهو بالقطع واليقين، إنما يضر نفسه والآخرين، وهذا ما نلاحظه ونلمسه في حياتنا اليومية.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 5/تموز/2014 - 6/رمضان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م