انحطاط العقل العربي

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: بمن يستنجد الإنسان في حل مشاكله؟ وبماذا يستنجد اذا اختلطت عليه الامور؟، ما هو الشيء الذي يمكن الاستعانة به في قراءة واقعنا وظواهر حياتنا وتقلبات مصائرنا؟، "انه العقل".

لكن بماذا يستنجد الانسان اذا فقد العقل، ليس على مستوى الفرد فقط بل على مستوى المجتمعات وقادة الراي والنخب فيها؟ اليس هو الجنون بعينه، او هو فقدان القدرات العقلية التي تمحص وتفسر وتستكشف مايدور حولها.

الكلب عض رجلا، لم يعد غريبا في عالم الاخبار والسبق الصحفي، فالانسان نفسه يشترك بخاصية العض مع الكلب، وها هو لاعب الاورغواي يعض مدافع ايطاليا، ليصبح خبرا مثيرا للصحافة العالمية ولمواقع التفاعل ابلاجتماعي.

العالم مجنون، اعلم ذلك، والجنون فنون، مقولة قديمة متهرئة لكثرة ما تلوكها الالسن.

اضافة الى الجنون الذي تتساوى فيه المجتمعات، نتميز عنها في مجتمعاتنا العربية والمسلمة بخاصية اصبحت حتمية تاريخية، وهي التسافل والانحطاط الى ابعد مدياته، سياسة واجتماعا وثقافة.

بعض امثلة لا اعرف غير خانة واحدة اضعها فيها، فهي عصية على التفسير من اي منظار اخر، انساني او اخلاقي سوي.

عدة الاف من التونسيين اصبحت قبلتهم الجماعات الارهابية في سورية والعراق، وكنت اظن ان التغيير الذي احدثه ما سمي بالربيع العربي، ورحيل الحكام المستبدين سيجعل من شعوب البلدان العربية تتوق الى كل مافيه الخير والصلاح، وستنشغل ببناء بلدانها وما خربه الاستبداد فيها.. كنت واهما. ما الذي يجعل هولاء التوانسة يتوجهون الى بلدان خارج جغرافيتهم القطرية وينشغلون بمحاولة اعادة نموذج سياسي تاريخي في بلدان اخرى، الا تكفي اعدادهم تلك من محاولة تغيير الواقع في بلدهم تونس وتحقيق هذا النموذج التاريخي فيه؟.

مثل اخر، وهذه المرة على لسان مسؤول اممي، لكنه عربي الجنسية والثقافة، انه الاخضر الابراهيمي، رجل اطفاء الحرائق المشتعلة في منطقتنا.

في لقائه مع جريدة الحياة اللندنية، وفي استذكاره للوقائع والاحداث التي جرت في العراق بعد العام 2003، يجيب على احد الاسئلة بقوله: (وهناك من اعتقد أنني سأكون طليق اليد في تشكيل الحكومة التي أريد إلى درجة انه اقترح علي اسماً، فلما سألت عن صاحب الاسم تبين انه كان المسؤول عن البرنامج النووي لدى صدام حسين. (يضحك).

يضع محرر اللقاء كلمة يضحك بين قوسين، وماذا لو ضحك الاخضر الابراهيمي؟.

لكن ضحكه هو تسخيف للراي المطروح، نكتشف ذلك من خلال جواب اخر على سؤال مختلف حول لبنان، اجاب الاخضر الابراهيمي: (أحد الأقلام التي أشرت إلى طبيعتها سابقاً قال إن خطأ الإبراهيمي الكبير هو انه حاول أن يعيد في سورية ما عمله في لبنان (يضحك). لا أعرف من أين جاءته هذه الفكرة السخيفة).

حين يضحك الاخضر الابراهيمي عند الاجابة على السؤال الاول، وضحكه دلالة على الفكرة او الراي السخيف الذي طرح عليه حين تبين له ان الشخص المرشح لتشكيل الحكومة تبين انه كان المسؤول عن البرنامج النووي لدى صدام حسين.

لا اعرف اسم هذا الشخص ولا يعنيني، بل ما اهتم له هو هذا السؤال الذي اطرحه على الشكل التالي:

اذا كان رفضه لشخصية هذا المرشح كونه عالما نوويا وهو مسؤول عن البرنامج العراقي، والذي دمر في العام 1981، وفي التسعينات خرج الكثيرون من علماء الذرة من العراق، فكيف تطالب الكثير من الاجهات الداخلية والخارجية، بالغاء قانون المساءلة والعدالة او ما عرف قبل ذلك بقانون اجتثاث البعث، وتقوم القائمة على الشيعة بسبب هذا القانون، وهو احد المطالب الثلاث عشرة لمن سموا انفسهم (ثوار العشائر)؟.

يتهم الشيعة دائما بانهم هم الذين اوصلوا العراق الى ماعليه الان بسبب سياسات اقصائهم للاخرين، لكن الاخضر الابراهيمي يشير الى حقيقة هامة في حواره المذكور حين يقول: (الواقع أن معظم القيادات السنية كانت تعيش في عالم آخر. كانت هناك حالة إنكار لما حدث. رغبة في عدم الاعتراف بأن واقعاً جديداً قد نشأ. في تلك الأيام كان المشهد غريباً. استمر الشيعة في التصرف كأنهم أقلية. واستمر السنّة في التصرف كأنهم الغالبية. هناك طرف تأخر في إدراك انتصاره وطرف تأخر في إدراك هزيمته).

اي ان اصل المشكلة في العراق وحسب تعبير الابراهيمي، عدم الاعتراف بالواقع الجديد الناشيء من قبل السنة، ولايمكن بالتتالي ان يعترفوا به في يوم من الايام.

اترك الاخضر الابراهيمي والسياسة ودهاليزها، واتوجه الى مثل اخر وهو اعلامي هذه المرة، ومن احدى الصحف السعودية وهي (الجزيرة) يكتب احد عباقرة مدرسة (الكلب عض رجلا)، وتحت عنوان (بضاعة شيعة لبنان رُدت إليهم) يفتتح مقالته (الكلبية) بقوله: (كثيرون لا يعلمون أن العمليات الانتحارية، التي سُميت فيما بعد (جهادية)، كانت في الأساس مخترعاً شيعياً لبنانياً. فأول من بدأها، أو اخترعها، في العصر الحديث كانت امرأة شيعية لبنانية).

المعلومة تسجل كانجاز للكاتب (الكلبي) فهو يخبرنا ان العمليات الانتحارية شيعية الانتماء والتكوين، لكن فيمن فجرت نفسها تلك المرأة؟.

يكمل الكاتب الجهبذ بقوله: (في الساعة الحادية عشرة من قبل ظهر يوم الثلاثاء الموافق 9 نيسان - أبريل 1985 عبرت سيارة بيجو 504 بيضاء اللون، تقودها لبنانية شيعية اسمها «سناء المحيدلي» حاجزاً إسرائيلياً في منطقة (باتر - جزين) في الجنوب اللبناني، لتنفجر في الجنود الإسرائيليين ومعداتهم الذين كانوا حينها يحتلون جزءاً من جنوب لبنان، واتضح فيما بعد أن المرأة كانت انتحارية، وكانت السيارة معبأة بالمتفجرات؛ هذه الحادثة تاريخياً هي أول عملية انتحارية سجلت في تاريخ المسلمين المعاصر).

عرفنا الان اين فجرت تلك المراة نفسها، في حاجز (اسرائيلي) واضع الكلمة بين قوسين، اي ليس في حاجز من جنود للجيش اللبناني، او المسيحيين او السنة في لبنان، وليس في سوق شعبي او مستشفى او مدرسة او جامعة، وسوف اتعب نفسي بتكرار هذه الاداة (أو) التي برع في استدراكها جهاديو السنة الذين كان علماء الزور السعوديين يفتون لهم بقتل انفسهم والاخرين في اي مكان تسنح لهم الفرصة فيه.

ولا يكتفي هذا الكاتب (الكلبي) بتفسيره العجيب الغريب، ومحاولة درء الاتهامات عن علماء السعودية او حكامها بالافتاء والتمويل بل يذهب بعيدا، كما ذهب اللاعب الاورغوياني ويختم مقالته عن العمليات الانتحارية بالقول: (ولم يكن مُنتجاً سعودياً لثقافتنا إطلاقاً).

بعد الريادة الشيعية في العمليات الانتحارية، وبعد ان اصبحت داعش اختراعا سوريا ثم ايرانيا، يعيد (الكلبيون) السعويون ومن لف لفهم كتابة تاريخ جديد للجماعات الارهابية وفكرها، ويمكن ان نقرأ مستقبلا اكتشافات جديدة تعيد تشكيل ماعرفناه والفناه، مثلا، قد يكون بن لادن شيعي الابوين وهو كان يمارس التقية كي يسيء الى الاسلام ويقود شبابها الى محرقة الموت، وقد يكون الظواهري احد احفاد الفاطميين وهو يعمل على تحقيق الثأر لهم، ثم قد يكون الزرقاوي من ابوين ايرانيين تلقى تعليماته من قادة الحرس الثوري الايراني، وقد يكون العولقي اليمني هو حفيد (العلقمي) الشيعي لتقارب احرف اللقبين، ثم قد تكون من خلال هذا النهج الجديد دولة طالبان هي احدى الدول الشيعية، ثم ستاخذ كل دولة اخرى غير السعودية باعادة كتابة تاريخ حركاتها الجهادية وفقا للمدارس (الكلبية) الجديدة التي يشكلها الاعلام السعودي والقطري، واخشى ما اخشاه ان يكون القرضاوي وفقا لروايات التاريخ التي ستقرؤها الاجيال القادمة، مرجعا من مراجع الشيعة متنكرا بعمامة سنية.

لا تكفي كلمة الانحطاط في وصف حالنا، لعل القراء يسعفوني بكلمة اخرى غيرها او غير الجنون وفقدان العقل.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 28/حزيران/2014 - 29/شعبان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م