داعش لم تكن وحدها، والهرب كان مؤامرة

صالح الطائي

 

إن كانت القوات العراقية المسلحة قد ذابت كما الثلج في ظهيرة تموز في الكويت بعد أن تقدمت قوات الحلفاء لتحريرها من المغامرة الصدامية الخاسرة عام 1991، وذابت بشكل يدعو إلى الغرابة والاندهاش أمام الغزو الأمريكي للعراق في 2003 فذلك لأنها لم تكن مقتنعة بالمهام الموكولة لها، فما من ضابط ولا جندي عراقي حتى البعثيين منهم كانوا يرغبون مثلا بمغامرة غزو الكويت، في الأقل بعد التجربة المرة في أخسر وأقبح المغامرات وأكثرها تفاهة، تلك المغامرة الفاشلة التي امتدت على مدى ثمان سنوات من التفاهة والعبثية في حرب الخليج الأولى مع إيران، والتي استهلكت القوى البشرية والمادية للعراق وأصابت شبابه بالإرهاق والتعب بعد أن سلبته أحلامه وتطلعاته.

وحتى بعد التغيير في 2003 وبعد أن تحول الجيش إلى مؤسسة مهنية وطنية ولكنها مدعومة بالكثير من الأيديولوجيات العسكرية والدينية والسياسية والنفعية والمصلحية، كانت سياسة التهريب متبعة من حيث لا يشعرون وذلك لخطأ طريقة بناء وهيكلة هذا الجيش. حيث كانت الحاجة ملحة لتوظيف القيادات العسكرية التي أسهمت بكل الهزائم السابقة التي أصابتنا، فضلا عن مصيبة ضباط الدمج الذين أساءوا إلى الجيش ولم ينفعوه، وتسلل بعض الحاقدين والمؤدلجين إلى مقرات القيادات وتسنمهم مناصب رفيعة، والاعتماد على أهل المحافظات للتعاقد معهم للعمل في صفوف الشرطة في محافظاتهم دون وجود رقيب مستقل يقيم الأمور، ولاسيما منها المحافظات الساخنة، وانعدام التدريب الحقيقي، وفقدان السلم الهيكلي للمنظومة العسكرية، فلا قيادة عامة مشتركة للقوات المسلحة، ولا دوائر لمحاربة الإشاعات وردها وتنظيم الحرب الإعلامية والتصدي لها، ولا دوائر عسكرية مهنية متخصصة من دوائر الدعم اللوجستي للقوات الحربية، ولا مراكز دراسات وتنظير، ولا قيادات كفوءة تعرف كيف تتعامل مع مستجدات أرض العركة، ولا تنسيق بين القوات البرية والجوية، ولا منظومة اتصال متطورة، بل ولا عقيدة تجمع المقاتلين، وأكبر المصائب كان تقييد حكومة المركز بمؤثرات الحراكات التي كان ظاهرها سياسيا وباطنها فئويا يدعو إلى عودة حكم السنة أو عودة حكم البعث أو وجوب إخراج الجيش من المدن وما يشبهها من الشعارات التي رفعت خلال المرحلة.

كل تلك المقدمات كانت تنبئ بوجود هزيمة أخرى مخبأة في طي مفاجآت الدهر تنتظر الجيش العراقي الفتي؛ ممكن أن تحدث لسبب من أتفه ما يكون، ولذا لم نستغرب من الهزيمة الإعلامية التي وقعت في الموصل وتسببت في هزيمة حقيقية لكثير من القطعات ولاسيما بعد أن رأوا بأعينهم هروب أهل المحافظة من الجيش والشرطة المحلية، وهو الهرب المدبر والمدروس والمفتعل الذي نجح في خلق حالة من الهلع والإرباك تسببت في هبوط معنويات بعض القطعات التي بادرت إلى ترك مواقعها، فسمحت للمجاميع المهاجمة باحتلالها، وذلك أضعف جانب القوات الأخرى التي حاولت أن تصمد والتي وجدت نفسها في النهاية محاصرة من كل الجهات، ولا بارقة أمل تلوح في الأفق توحي بدعم أو بفرج قريب، وقد تكون هذه الهزيمة إذا صح التعبير أول واكبر هزيمة يسببها الإعلام والإيحاء المؤثر الذي كان يضخم عدد القوات الأمنية الهاربة ويقلل من أهمية المجاميع المهاجمة التي هزمته، حتى قال بعضهم: إن مجموع أعداد القطعات الحكومية الهاربة زاد على مائة ألف مقاتل مقابل أربعمائة مقاتل فقط من داعش، رافق ذلك حديث عن هرب القيادات العسكرية العليا وهروب الضباط، وعدم وجود مصدر محايد يحدد حقيقة موقفهم.

أما واقع الحال فهو أن قطعات من القوات الأمنية انسحبت بسبب تعاون وتنسيق قادتها وضباطها مع داعش، فاثر انسحابها على موقف وأداء القطعات الأخرى مما سهل للمجاميع المهاجمة استغلال عنصر المفاجأة وتحقيق مكاسب على الأرض بدعم من الأهالي المحليين؛ الذين هم بالأساس كانوا ولا زالوا يتعاطفون مع داعش نكاية بالحكومة العراقية بسبب وجود مكون مذهبي فيها لا يريدون له أن يكون بهذا المكان كما صرح المستشار الميزان المقيم في الأردن، وأفتى الشيخ السعدي المجاور له، وفي ذلك تحقيق لمقولة قائدهم المهزوم المعدوم الذي كرر أكثر من مرة انه على استعداد للتعاون مع الشيطان في سبيل تحقيق نصر مهما كان رخيصا ليسموه "القائد المنصور"

وأما القوات المهاجمة فلم تكن مجرد أربعمائة جرذ داعشي، إذ من غير المعقول بل من المستحيل أن تسيطر مثل هذه المجموعة على قرية صغيرة لا على مدينة مثل محافظة نينوى التي يقطنها بحدود مليوني عراقي، بل كانت؛ كما ورد في كثير من التقارير العسكرية والصحفية والمخابراتية مدعومة بمجاميع كبيرة جدا سبق وأن استقدم بعضها من مدن ومحافظات أخرى استعدادا لساعة الصفر، حيث تم إيواؤهم في بيوت الذين يتعاطفون مع داعش، مقابل سكوت المعترضين خوف القتل، بمعنى أن داعش كانت الواجهة أما اذرعها، فهي مجاميع كثيرة مختلفة المشارب والتوجهات حاول بعضها تقديم داعش كطعم وكبش فداء، على أمل أن يفيد من هول الصدمة التي تبيد داعش وتضعف وتفكك الجيش، فيعلن انقلابا عسكريا من تلك الانقلابات التي ألفناها في تاريخنا الحديث، ولم تكن هذه المجاميع متجانسة مع بعضها، بل كانت تتقاطع في عشرات النقاط، وأجمع المتخصصون أن عدد هذه المجاميع كان أكبر من المتوقع بكثير، ولقد أحصيت منها:

1ـ الكثير من أهل الموصل نفسها، وقد اعترفوا هم بذلك، كما فضحت ذلك الأشرطة التي نشرت.

2ـ جميع  أفراد التنظيمات الإرهابية الأخرى التي كانت تعمل في الموصل.

3ـ مئات الحواضن من داخل المدينة.

4ـ تنظيمات حزب البعث المنحل بكل كوادرها، وهم الذين ظهروا في شوارع الموصل يرتدون (الزيتوني) الذي كانت ترتديه الأجهزة الأمنية الصدامية.

5ـ مجاميع كبيرة من ضباط الجيش السابق والحرس الجمهوري والمخابرات والاستخبارات وفدائيي صدام، الذين تلطخت أيديهم بدماء العراقيين الأبرياء فلم تسنح لهم فرصة الانضمام إلى الوحدات الجديدة مثل أقرانهم.

6ـ مجاميع كبيرة جدا من أصحاب السوابق والمطلوبين للعدالة بتهم السرقة والقتل والدعارة والقوادة والمخدرات والسطو المسلح وزنا بالمحارم واللواط.

7ـ مجاميع إجرامية تم إطلاق سراحها من السجون بما فيهم  إرهابيين خطرين جدا ومجرمين في غاية الخطورة.

8ـ ما يعرف بـ (جيش المجاهدين): وهو تنظيم سلفي إرهابي شكل عام 2003 بعد التغيير بحجة محاربة المحتل ولكنه تخصص بمحاربة أبناء الشعب العراقي الأصلاء من خلال الذبح والتفجير والتفخيخ والتهجير.

9ـ رجال الطريقة النقشبندية: وهو تنظيم متطرف يقوده المجرم عزت الدوري، وله أتباع في المناطق ذات الكثافة السكانية الكردية وبعض المجاميع الصوفية.

10ـ الجيش الإسلامي في العراق: وهم جماعة إسلامية وهابية متطرفة، شكلها ضباط سابقين في الجيش العراقي وأبناء عشائر، ارتكبت الكثير من الجرائم.

11ـ كتائب ثورة العشرين: وهي ميليشيا إجرامية تدين بالولاء لحارث الضاري وسبق لها وأن قامت بمئات العمليات الإرهابية في بغداد وباقي المحافظات.

12ـ جيش أنصار السنة الذي تم تشكيله في أيلول 2003: وهي ميليشيا عسكرية تتكون غالبا من ضباط وجنود الجيش المنحل وأعضاء سابقين من جماعة أنصار الإسلام الكردية، فضلا عن مقاتلين عراقيين وعرب من السلفيين المتشددين.

13ـ قادة وضباط وأفراد من الأكراد ومن أهالي الموصل وتكريت والأنبار وديالى، كانوا قد نسقوا للانسحاب في ساعة الصفر لإرباك الوضع، وكشف ظهر القوات الأخرى، وبث روح الهزيمة لدى الآخرين، وقد كان لهؤلاء دورا مؤثرا في سير الأحداث

14ـ التنسيق المفضوح والمكشوف والمدبر بين القيادات الكردية وقيادات الحراك الإرهابي وقد بانت ملامح هذا الاتفاق من خلال تجنب داعش وأعوانها الاصطدام بالمناطق التي هي تحت سيطرة القوات الكردية أو المناطق التي يسكنها المسيحيون والأكراد.

15ـ جهاز إعلامي معادي محلي وعربي ودولي ضخم جدا، تمثل في قناتي الجزيرة والعربية وبعض القنوات الفضائية الأخرى التي يملكها تجار كبار وسياسيون عراقيون، منهم من يشترك في الحكومة مثل قناة شرقية سعد البزاز وقناة بابلية صالح المطلك نائب رئيس الوزراء وبغدادية أنور الحمداني والرافدين والفلوجة والتغيير، وغيرها من قنوات الفتة والشر. فضلا عن الحسابات الإرهابية على مواقع التواصل الاجتماعي، مثل (حساب داعش على تويتر) و(تنسيقية ربيع العراق) و(منبر العراق والشام) و(أخبار داعش نيوز)

16ـ شعب بمجموعه لم يستفد ولم يتعظ بكل التجارب الثرة التي مر بها، ولم تردعه أنهار الدم التي فاضت على جنبات حياته عشرات المرات ليأخذ موقفا مسؤولا مما دار ويدور وسيدور منذ 3003 وإلى العماء البوهيمي، أو ليجنب نفسه تكرار المأساة في حياته

17ـ ثقافة الكراهية التي ربينا عليها والتي تتحكم بمواقفنا ورؤانا وبتقييمنا وتحليلنا للأحداث وموقفنا منها

18ـ التمذهبات والاستقطابات الدينية والسياسية التي تناست نظرية (أنا وابن عمي على الغريب) وتحولت إلى نظرية جديدة لا تمت إلى منظومة الأخلاق بصلة تقول (أنا والغريب على ابن عمي) لكي لا ينجح في أمر فيحسب النجاح له.

19ـ المحيط الإقليمي بعربه وعجمه الذي يتخوف من نجاح التجربة العراقية ويرى فيها نهاية لأحلامه وآماله، بما فيها تلك التي تحاول ترحيل مشاكلها إلى بلد مهيأ لاستقبال كل النقائض.

20ـ قوى عظمى ذات برنامج محكم التنظير والرسم والتطبيق هي التي تتحكم بمجريات الأمور في كل أزمة تمر في العالم مهما كانت بسيطة.

أي أن سقوط الموصل جريمة كبرى ومؤامرة محاكة بخبرة مخابراتية دولية؛ أسهم فيها عدد كبير من أهل المدينة نفسها ومن التنظيمات الإرهابية المتطرفة، والجهات السياسية المتنفذة بما فيها رئيس وكثير من أعضاء الحكومة المحلية في الموصل، وهذا ليس قولا مبنيا على الظنون ولا رجما بالغيب، فقد جهر بهذه الحقيقة أمين عام ما يعرف باسم (تجمع ثوابت الأمة)، الشيخ المتطرف محمد هايف المطيري الذي قال: "إن الموصل تحررت من قبل أهل الموصل باختلاف توجهاتهم وليس داعش وحدها".

ولذا أرى أن على القوات الأمنية التي تستعد لتحرير الموصل أن تحسب حسابا لكل هذه المجاميع وأن تكون شديدة معهم بنفس درجة شدتها مع داعش، أما تحرير المدينة نفسها فسوف يتحقق إن شاء الله بأقرب مما يعتقد المحللون والسياسيون ولاسيما بعد أن جاء الزحف العظيم لجماهير الشعب التي أطاعت أمر المرجعية بوجوب التطوع لتحرير العراق من قبضة الحقد والكراهية والتفرقة والطائفية. وأما نحن الذين لا يمكننا حمل السلاح فنردد ملء حناجرنا

اضرب فدتك الروح لا تبقي لهم أثرا

فالجرح في القلب مذ صفين مستعرا

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 15/حزيران/2014 - 16/شعبان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م