"داعش" وإستراتيجية قضم الارض والتمكين

داعش من إستراتيجية قضم الارض الى الاستنزاف

جاسم محمد

 

انسحبت القاعدة من العراق باتجاه منابعها الأصلية عام 2010 في اعقاب مقتل ابو ايوب المصري وابو عمر البغدادي زعيم "الدولة الاسلامية في العراق" انذاك قبل ان تتحول الى "الدولة الاسلامية في العراق والشام" مختصرها "داعش" عام 2013 وما تبقى من القاعدة في العراق هي فصائل عراقية محلية وذات هوى قاعدي. اقامت "الدولة الاسلامية" تنظيمها على اسس إستخبارية وعسكرية حتى وصفت بشراستها الإستخبارية بسبب اعتمادها على الخبرات والتدريب العسكري والإستخباري اكثر من الايدلوجية العقائدية. ابو بكر البغدادي "ابراهيم عوض البدري" احكم حلقة علاقاته من الداخل وفق المنظور الاستخباري رغم ان سيرته الذاتية تقول بانه معلم لمادة الشريعة وبعيدا عن الإستخبارات والعسكر، واتخذ من مدينة وصحراء الانبار معقلا له.

القاعدة تستفيد دائما من الجغرافية، ويبدو ان البغدادي وجد في صحراء الانبار ومنافذها الصحراوية مع سوريا ملاذا افضل، مازاد في ذلك ان الطبيعة الديموغرافية الى اهالي الانبار ومدينة الفلوجة المشهورة بتمسك اهلها بتعاليم الدين الاسلامي وكثرة مساجدها. استفاد البغدادي من اخطاء سلفه ومن تجارب ابو مصعب الزرقاوي وكانت ممارساته تعكس تأثره بأبو مصعب الزرقاوي مؤسس "التوحيد والجهاد" في العراق عام 2003 وزاد عليه بدمويته وفي خطابه الطائفي لكنه اختلف عنه بالارتكاز على الاستخبارات اكثر من الجهد العسكري، ليتحول التنظيم الى مؤسسة عسكرية اكثر من تنظيم "جهادي". ربما استفاد البغدادي من علاقته الإستخبارية سابقا مع القوات الاميركية والعراقية، التقارير المعلوماتية تشير بأن بداية البغدادي الاستخبارية كان عميلا الى القوات الاميركية وطلب منه ان يزج في المعتقل ليكون قريبا من مقاتلي القاعدة بهدف تحقيق اختراق للتنظيم. أحد التقارير الاستخباراتية البريطانية الذي نقلتها جريدة التايمز البريطانية [اشار الى ان البغدادي كان في الأساس صناعة امريكية، وانه في الأخير باع خدماته لصالح الاستخبارات العراقية وايران، وقالت: إن الامريكان ضاعفوا رصيد البغدادي وشهرته عام 2011 عندما رصدوا عشرة ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات مؤكدة عنه].

تمدد داعش

شهدت "الدولة الاسلامية" انحسارا كبيرا حتى عام 2011 بسبب المراقبة الاميركية والعمليات العسكرية الواسعة، حتى تحولت الى شبكة ضعيفة لجمع الاتاوات في مدينة الموصل وديالى وبعض مدن الانبار.

وبعد اندلاع "الثورة السورية" 2011 اصدر البغدادي الكثير من الرسائل الى المقاتلين العرب والاجانب في سوريا من داخل العراق تحت عنوان" هدم الاسوار" يدعو فيها الى مساندته بدخول العراق في اعقاب الانسحاب الاميركي. وشهد العراق العديد من العمليات بتهريب وهروب السجناء تمتد على مساحة واسعة من الشمال الى الجنوب. كانت سياسة البغدادي تتضمن إستقطاب المقاتلين العرب والاجانب الى العراق وصعد من خطابه الطائفي مستفيدا من ممارسات القوات الاميركية السابقة ضد العراقيين وخاصة في المنطقة الغربية ومن ممارسات القوات العراقية منها اعتقالات غير قانونية او مداهمات عشوائية.

كانت إستراتيجية "الدولة الإسلامية في العراق" تستهدف مقرات الامن والمباني الحكومية بالاضافة الى زرع العبوات والتفجيرات، لكن لم يصل الى حال التمكين واعلان الامارة. إن الجغرافية التي يتواجد فيها البغدادي وتنظيمه، وطبيعة السكانية المتداخلة مع سوريا وخاصة المناطق الحدودية، شجعته للاندفاع الى سوريا بتشكيل جبهة النصرة بزعامة ابو محمد الجولاني، لتبدأ إستراتيجية جديدة تتحول من الصدام مع الحكومة العراقية، الى توسيع دولته مع سوريا، ليرسم خارطته وشكل تنظيم جديد وهو "الدولة الاسلامية في العراق والشام" المعرفة باختصار "داعش". هذه الإستراتيجية تقوم على مسك الارض والتمكين. التكتيك الذي اتبعه البغدادي كان ذكيا جدا، وهو ايجاد الحواضن اي التعايش والمصاهرة مع اهالي المدن والعشائر في سوريا اكثر من العراق، هذا التعايش جعل البغدادي ان ينشر مجموعة من " النقاط منتشرة على شمال شرق سوريا ليبدأ بعد ذلك بربط هذه " النقاط" او المجموعات التي تحولت بعد ذلك الى كتائب وفصائل ثم تشكيلات داخل سوريا، تستقوي على تنظيم القاعدة وتبتلع بقية الفصائل القاعدية ضمن إستراتيجية جديدة وهي " قضم الارض" التي تتماشى مع إستراتيجية التمكين ليصل الى اعلان "إمارة الرقة "في سوريا ويربطها عبر دير الزور في صحراء الانبار وتمتد شرقا مع محافظة ديالى وسلسلة جبال حمرين. يقول تشارلز ليستر من مركز الدراسات حول الارهاب وحركات التمرد "آي اتش اس جاينز" البريطاني [تعمل الدولة الاسلامية في العراق والشام لفرض نفسها في مناطق شمال وشرق سورية التي باتت مسرحاً لأكثر من انتفاضة ومواجهة مسلحة وان هذا يتيح لها الوصول بسهولة الى مجندين جدد والى الموارد والتمويل والامدادات بهدف انشاء دولة تمتد من شمال سورية الى العراق].

خلع البغدادي

اعلنت "القيادة العامة" لتنظيم القاعدة يوم 3 فبراير 2013:[ ان لا صلة لها بتنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام المعروف بداعش. وجاء في البيان الذي نقلته مؤسسة سايت المتخصصة في رصد المواقع الاسلامية تعلن جماعة قاعدة الجهاد انها لا صلة لها بجماعة الدولة الإسلامية في العراق والشام، فلم تخطر بإنشائها، ولم تستأمر فيها ولم تستشر، ولم ترضها، بل أمرت بوقف العمل بها].

إن خلع الظواهري للبغدادي واعلان الجبهة الاسلامية في سوريا من قبل في سبتمبر 2013، قلصت من نفوذ و"شرعية " داعش الجهادية بين الحواضن، رغم الدور الرمزي الذي لعبة الظواهري في السجال مابينه وبين البغدادي. ورغم تقلص التنظيم وانحسار حواضنه بسبب مواجهاته مع الجيش الحر والفصائل الاسلاموية الاقل تطرفا في سوريا، لكنه استقطب الكثير من المقاتلين الاجانب داخله، وربما يعود السبب الى رفض الجبهة الاسلامية والتشكيلات القاعدية في سوريا باستقبال المقاتلين الاجانب، وكأنها قدمت خدمة مجانية الى تنظيم "داعش". تراجع التنظيم مطلع عام 2014 كثيرا في سوريا واضطر الى عقد هدنة مع فصائل الجبهة الاسلامية والجيش الحر في حلب واعزاز وغيرها من المواقع وكان يحاول معالجة فشله وتراجعه العسكري بالتفجيرات والمفخخات عن نقاط العبور مع التشكيلات القاعدية والجبهة الاسلامية في سوريا. البغدادي رغم ذلك كان حريصا على ربط جغرافية دولته الاسلامية ضمن استراتيجية قضم الارض والتمكين، بعيدا عن مواجهة نظام الاسد ليثبت التحليلات والمعلومات التي افادت بأنه يعمل مع نظام الاسد.

التمكين في الانبار

كانت رسالة الظواهري الى البغدادي في مايو204 بان يتفرغ للعراق، كأنها رسالة تقاسم الادوار القاعدة تقتل في سوريا وداعش تتفرغ لقتل العراقيين! هذه الرسالة هي عزل للبغدادي وتنظيمه وهذا مادفعه الى التمترس والتمكين باعلان إمارته بالفلوجة. الظواهري ختم رسالته بتوجيه "أمر" إلى جبهة النصرة، زعيما وجنودا دعاهم فيها[ بالتوقف فورا عن أي قتال فيها عدوان على أنفس وحرمات إخوانهم المجاهدين، وسائر المسلمين، وأن يتفرغوا لقتال أعداء الإسلام من البعثيين والنصيريين وحلفائهم من الروافض]. البغدادي كان يحتمي داخل الانبار بعد ان شنت القوات العراقية عمليات عسكرية ناجحة في صحراء الانبار امتدت شمالا الى مدينة الموصل وكذلك مدينة ديالى. اتخذ البغدادي من الانبار ملاذا، وماعقد المشهد في الانبار هو خلاف اهالي الانبار مع للحكومة العراقية واعلان "مجلس حرب"، مما احرج الحكومة العراقية اكثر وشل حركة الجيش بدخول الفلوجة.

إستراتيجة إستنزاف القوات العراقية

اعتمد "داعش" إستراتيجية جديدة مابعد الانتخابات العراقية في شهر ابريل 2014، ليتحول من استراتيجية التمكين واعلان الامارة الى إستراتيجية استنزاف القوات العراقية القائمة على الكر والفر اي بتنفيذ عمليات استعراضية في اكثر من مكان في نفس الوقت والانسحاب، القضم البطيء للأرض وفتح الثغرات في الحزام الامني والسواتر الى بغداد والمدن. البغدادي اختبر القوات العراقية ووجد ان الحكومة العراقية تعتمد على قوات النخبة الفرقة الذهبية في معالجة هجماتها، لذلك اختار مساحة جغرافية واسعة عملت فعلا على اضعاف قوات النخبة التي قدمت الكثير من الخسائر واضعفت قدرتها بعد مطاولة المواجهة مع مطلع فبراير 2014. ونجح البغدادي في قضم الارض بإيجاد ملاذات امنه في حزام بغداد لا تبعد الا عشرات الكيلومترات ابرزها مدينة ابو غريب غربا والطارمية والضلوعية شمالا والصقلاوية جنوبا. "داعش" يرسم خارطته الجديدة امام تراجع وتدهور امني لم يرتقي الى حجم المواجهة مع "داعش" لتختزل قوات الامن والدفاع بالفرقة الذهبية التي لا يتجاوز عددها اربعة الاف مقاتل.

استراتيجية "داعش" تهدف التمكين في احزمة بغداد وخنق بغداد ومن ثم فتح ثغرات من خلال الهجمات العنيفة وشن هجمات نوعية ضد اهداف حكومية بهدف الاستنزاف. مابعد الانبار اتبع "داعش" اسلوب والتسرب والتمكين داخل المدن ابرزها ديالى والموصل وصلاح الدين بعد تضيق الخناق عليه في الصحراء ومدينة الانبار وما ساعده في ذلك بان تركيبة التنظيم يقوم على مجموعة خلايا صغيرة لاتتجاوز بضعة افراد من المقاتلين تتجمع بعد ذلك داخل مجموعة تمكين تقدر بالعشرات من خلال مسؤولي الخلايا.

تنظيم البغدادي اتسم بمرونة الحركة والتنقل، فأستطاع نقل المواجهة مع القوات العراقية اكثر من مرة بتغيير جغرافية المواجهة وفي مساحات واسعة اما صمت استخباري عسكري عراقي، فنجح في نقل المعدات والمقاتلين بأرتال سيارات الدفع الرباعي والعجلات الثقيلة من سوريا عبر المعابر الحدودية منها القائم واليعربية ومعابر اخرى عبر الصحراء اختبرها التنظيم. ونجح مرة اخرى بنقل هذه الارتال والمعدات الثقيلة من مدينة الانبار الى سلسلة جبال حمرين. التقديرات تشير ان سلسلة جبال حمرين ممكن ان تكون الملاذ الامن الاكثر ولفترة طويلة بعد تعقيد المشهد في مدينة الانبار والفلوجة.

العراق يواجه تحديا كبيرا

العراق يواجه الان تحدي كبير في مواجهة "داعش" والتنظيمات الجهادية القاعدية الاخرى، يشار الى انه من المتوقع ان التنظيم عقد عدد من التحالفات مع تنظيمات ومجموعات مسلحة اخرى ربما جيش الطريقة النقشبندية وانصار الاسلام رغم خلافاته مع الاخيرة، لكن مجالس الثوار التي اقامتها اهالي الانبار في اعقاب احتجاجات الحويجة عام 2013 ومنصات الانبار، ربما تكون هي الاكثر توسعا. العراق يحتاج الدعم الدولي والاقليمي، التقديرات تقول بان العراق لايمكن بمفرده مواجهة الارهاب، واذا استمرت تداعيات تدهور الامن في العراق، فربما لايكون بعيدا عن المشهد السوري. إن إستراتيجية التنظيمات القاعدية "الجهادية" قائمة على اضعاف وزعزعة الانظمة ومطاولة المواجهة واستنزاف الحكومات وزعزعتها. العراق لايوجد لديه خيار غير العودة الى المجتمع الدولي لطلب العون والمساعد وربما يكون هنالك دعم بشرعنة قراراته بتعقيب الاطراف الداعمة والممولة للإرهاب ضمن إستراتيجية تجفيف الارهاب ومنابعه اكثر من سياسات ردود الافعال الاقليمة، وربما يحتاج العراق ايضا الى مؤتمر اصدقاء العراق على غرار اصدقاء سوريا واليمن في مواجهة الارهاب، افضل من القاء التهم على اطراف سياسية واقليمية من خلال الاعلام والتي ممكن ان تفسر لأغراض دعائية.

ممكن ان يعود العراق الى الولايات المتحدة الاميركية بتوقيع اتفاقية امنية جديدة والاستعانة بالخبرات الاستخبارية الاجنبية في محاربة الارهاب، لأن العراق والمؤسسات الاستخبارية العراقية قد اخذت مايكفيها من الوقت لكنها للأسف لم ترتقي بعد الى المستوى المهني، رغم وجود بعض القدرات الاستخبارية والخبرات، التي تم تعطيلها بسبب الفساد والتسييس.

* باحث في قضايا الإرهاب والإستخبار

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 11/حزيران/2014 - 12/شعبان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م