الديمقراطية وعلاقتها بـ النزاهة السياسية

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: لا أحد يتخلف عن الحديث عن تحقيق الديمقراطية في العراق وسائر البلاد الاسلامية بسبب وطأة الاستبداد السياسي وخنق الحريات وانعدام العدالة، فهذا ما نسمعه من المرشح للانتخابات في حملته الدعائية، وحتى بعد تسنّمه منصبه في البرلمان او الحكومة او غيرها، كما نسمعه من المواطن الذي أوصله الى منصبه بصوته، ساعياً لأن يكون له دور في صنع القرار والتغيير. لكن القليل من يتحدث عن آلية تحقيق هذا الهدف المنشود.

نعم؛ هنالك شعارات ترفع وبعض التطبيقات على الساحة، متمثلة في "المشاركة السياسية"، المعروفة اعلامياً وجماهيرياً بـ "المحاصصة السياسية". وكل يوم يمر على العراق وعلى سائر بلادنا، نجد ابتعادنا فراسخاً عن هدفنا المنشود، فيما المفاهيم الديمقراطية تتحول الى أدبيات سياسية جذابة ومثيرة للمشاعر الوطنية والإنسانية، وتكون وسيلة للتحشيد والتعبئة.

ما السبب في هذا التباعد بين الديمقراطية والواقع الموجود، رغم العطاءات والامتيازات والتحشيدات التي نراها تكرس وجود ديكتاتوريات بقناع ديمقراطي..؟!

سماحة المرجع الديني الراحل الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- يفسّر عدم نجاح هذا النمط من الحكام المتلبسين بالديمقراطية في حياتهم السياسية، وهذا بدوره يكشف لنا عواقب آثار هكذا نهج في الحكم، على المدى القريب والبعيد.

يدعو سماحة الامام الراحل في كتابه "السبيل الى انهاض المسلمين"، الحكام لأن ينتهجوا "المنهج الاستيعابي"، بل يعد ان بامكانه ان يكون "جذاباً الى ابعد الحدود، حتى يفكر كل فرد أنه يستطيع أن يعيش في ظل هذا الحكم في رفاه وسعة وحرية وكرامة واطمئنان..". وهو في ذلك ينصح ابناء الحركة الاسلامية ونخبها السياسية الى اتباع هذا النهج، قبل وبعد وصولهم الى السلطة، ويؤكد انه بخلاف هذا النهج فانها "لا تنجح ولا تصل إلى الحكم، ولو فرض أنها وصلت إلى الحكم في بقعة صغيرة من الأرض، فلا يمر زمان عليها إلا وينهار، فإن أي حكم لا تحمله القلوب لا بد وأن يتهاوى بسرعة".

ولنا في رسول الله صلى الله عليه وآله، خير أسوة، عندما تمكن من كسب قلوب الناس وتوسيع نطاق الدولة الإسلامية بأسلوب الاستيعاب واحتواء الجميع دون استثناء، ولعل وقائع فتح مكة، تكون خير دليل ساطع على ما نذهب اليه. وهذا درس بليغ يجب ان يكون نصب عين كل مدّعي لممارسة الديمقراطية، فالتعايش والتداول السلمي للسلطة، يعد مما تشكله قاعدة النظام السياسي المتطلع لمستقبل بعيد.

البعض يتسائل اليوم: اذا كان الحكومة او الحاكم – مثلاً- ينتهج الاحتواء والتداول السلمي للسلطة، ويسعى لإشراك الآخرين في اتخاذ القرار، فان هنالك البعض من الساسة من لا يهمهم مستقبل البلد ولا القيم والمبادئ التي يقوم عليها النظام الحاكم، إنما المكاسب والامتيازات هي الأولى.. مما يدفع بعض الحكام الى المجاراة للاستفادة من الفرص الموجودة وكسب القوى المختلفة. وإذن؛ ما الذي سينتجه "التداول السلمي للسلطة"، او "الاستيعاب" للشعب والبلد..؟

هنا مربط الفرس..!

اذا كانت الحكومة والحاكم يطالب الموظف والمدير والشرطي والقاضي، بنزاهة اليد والالتزام بالامانة والعدالة وصون حقوق الناس والتعامل معهم على قدم المساواة بعيداً عن أي نوع من المحاباة والمحسوبية، فان الناس أنفسهم يطالبون هذا الحاكم بأن يكون نزيهاً في فكره وثقافته التي ترسم نهجه وسياسته في الحكم.. هذه النزاهة هي التي تضمن الفائدة الحقيقية لمفاهيم مثل "المشاركة السياسية" وحتى "الاغلبية السياسية" لانها بالحقيقة تمثل القاعدة الرصينة التي تقف عليها الممارسة الديمقراطية. فالذين يندمجون او يشاركون في الحكم من احزاب وشخصيات ومكونات، اذا وجدوا النزاهة والالتزام بالمبادئ والقيم لدى الحاكم، فانهم لن يجدوا طريقاً سوى مسايرته حتى وإن كان بالظاهر، وإن حصل العكس، بان للجميع أحقية الحاكم لابناء الشعب وللاجيال والتاريخ. وهذا أمير المؤمنين، عليه السلام، المثال الصارخ والنموذج الحي عبر التاريخ، وهو يهتف "أعرف الحق تعرف أهله".

وهذا تحديداً ما يشير اليه سماحة الامام الراحل في كتابه المشار اليه، حيث يؤكد على نظافة الحاكم والحكم، في الفكر والممارسة، "فاذا كان القائد غير نزيه، أو كان القائمون بالعمل السياسي منغمسين في الفساد، من رشوة، وحب الشهرة، واقتناء المباني والقصور والسيارات والأثاث والرياش، فلابد وان تنهدم هذه الحركة، لأن الناس لا يلتفون إلا حول القائد الصحيح النظيف صاحب الفضيلة والتقوى".

عندما يكون الحديث عن "التقوى"، يتبادر الى ذهن البعض – وربما الكثير- هو الجانب العبادي والاخلاقي، حيث يفترض بالانسان المتقي، مخافة الله واجتناب معاصيه والحذر من مغبة التجاوز على حقوق الناس، وهذا حسنٌ ومطلوب قطعاً، بيد ان الصحيح ايضاً هو الجانب الانساني في القضية، فالتقوى الواردة في الآية القرآنية: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، تعبر عن حالة التنافس والتسابق على فعل الخير واستحصال المكارم والفضائل. فالتكريم هنا لمن يكون اكثر الناس حرصاً على تقليل نسبة الخطأ في اعماله ومواقفه وحتى فكره ونهجه في الحياة. وهذا تحديداً ما يريده الناس من الحاكم والشخصية السياسية، بل من جميع مؤسسات الدولة، الامنية والسياسية والقضائية وغيرها.

يُحكى أن شقيقين اشتهرا بالعبادة والتهجّد والانقطاع الى الله تعالى، وتكريماً للمرتبة التي وصلا اليها من الورع والتقوى، أن وهب الله تعالى معجزة باهرة، فجعل لاحدهما جمرة على كومة قطن لا تحترق، أما الثاني فكان يحمل الماء بالكيس المصنوع من جريد النخل المعروف في العراق بـ "الزبيل" ولا تنزل منه قطرة واحدة، وبعد فترة من الزمن، قرر أحدهما العودة الى المدينة وتجربة حياة جديدة فيها، ربما بعد شعوره بشيء من الملل في الصحراء..!. وهنا أهدى صاحب "الزبيل" معجزته الى شقيقه الراحل الى المدينة لتكون له ذكرى أينما حل وارتحل، وبعد فترة من العمل التجاري، تحول صاحبنا الى صائغ للذهب، وله محل للمجوهرات ترتاده النساء والفتيات – كما هي العادة- وذات مرة، جاءه شقيقه من الصحراء لزيارته، فرأى "الزبيل" معلّقاً في المحل كتحفة باهرة تدل على منزلة صاحبه، وفي الاثناء دخلت المحل زبائن من النساء، وكان وقتها العابد مطرقاً برأسه الى الأرض، كما كان شقيقه العابد هو الاخر مطرقاً الى الأرض، لكن على حين غفلة أو غرّة.. حانت من الأخير التفاتة سريعة الى الأعلى حيث تقف إحدى الزبائن، وبنفس سرعة الالتفاتة الخاطفة، سقطت قطرة ماء من ذلك "الزبيل" المعلق على رأس الشقيق العابد القادم من الصحراء، وقد لاحظ شقيقه الموقف، فأنكر عليه فعلته، وقال له: طيلة الفترة التي أمارس فيها عملي في هذا المحل الذي يمتلئ يومياً بالنساء والفتيات، لم ترتفع عيني على إحداهن، ولم تسقط قطرة ماء واحدة، والدليل هو الجمرة التي على القطن عندك طيلة الفترة الماضية.

عندما نتحدث عن الديمقراطية التي تحقق للناس العيش الكريم والتقدم والتطور في الحياة، علينا ان ننتبه الى شروطها واستحقاقاتها، فالاكتفاء بالتحالف مع هذا او ذاك، او إرضاء هذه الجماعة أو تلك، او كسب الولاءات أو صناعة الموقف، وغيرها من الخطوات والاساليب المعهودة في العملية السياسية في بلادنا، لن تبني جسور العلاقة الصحيحة والدائمة بين القيادة والقاعدة، او بين الحاكم والشعب. لأن الناس ملّوا الشعارات والادعاءات الفارغة، إنما يريدون التطبيق العملي لما وعدوا به مكتسبات وثمار الديمقراطية.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 3/حزيران/2014 - 4/شعبان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م