جواد سليم.. رؤية أوسع من الحلم

د. علي محمد ياسين

 

من يتحدث عن جواد سليم المبدع يجد نفسه منجذبا للحديث عن أثره البارز (نصب الحريّة) الشامخ في ميدان التحرير بقلب العاصمة الحبيبة بغداد، وهو الأثر الذي سيظل محفورا بالذاكرة العراقيّة المعاصرة التي شهدت في العصر الحديث مجموعة تحولات فكرية وسياسية واجتماعيّة عسيرة واكبها جواد سليم بحسّه المرهف وبتوقه إلى المطلق وإلى الحريّة في أسمى تجليّاتها من خلال مجموعة متميّزة من الأعمال الفنيّة والتشكيليّة التي تجسّد عبقريّته الشخصية المشدودة إلى الحرية بصفتها شرطا حيويا لإغناء التجارب البشرية ولدعم تعايش الأصوات والنغمات المتنافرة، بغية تجديد نسغ الحياة وترسيخ قيم التغيير والفكر الحداثي المتنوّر.

وقد ولد جواد سليم عام 1921 في أنقرة لأبوين عراقيين، ولعائلة مارست فن الرسم واشتهرت به، فقد كان والده الحاج سليم واخوانه (سعاد ونزار ونزيهة) من الفنانين التشكيليين المعروفين على مستوى العراق، وقد ظلّ جواد عاشقا للرسم والخط والنقش على الطين منذ نعومة أظفاره، ولذا نال الجائزة الفضية في النحت في أول معرض للفنون في بغداد سنة 1931وعمره لم يتجاوز العشرة أعوام، وحين بلغ السابعة عشرة أوفدته الحكومة للدراسة في باريس، لكنه بسبب اندلاع الحرب العالمية الأولى ذهب إلى روما، وبعد عودته من أوربا عمل مدرسا للنحت في معهد الفنون الجميلة ببغداد، كما عمل مرمّما للتحف الآشورية والسومرية، وقد أسس مع مجموعة من زملائه العراقيين منهم عطا صبري، وحافظ الدروبي قبيل الحرب العالميّة الثانية حركة فنيّة جديدة أطلق عليها (حركة الروّاد) ثم شكّل مع مجموعة من الفنانين البولونيين اللاجئين إلى العراق فيما بعد مدرسة تعنى بأساليب الفن الحديث وبدراسة هذه الأساليب على وفق أسس علميّة، وقد تكللت جهوده هذه بإنشاء مدرسة (جماعة بغداد للفن الحديث) عام 1951 بالاشتراك مع نخبة من الرسامين والنحاتين والمعماريين والكتّاب والمنظّرين.

في حين فاز عمله الموسوم بـ(السجين السياسي المجهول) عام 1953م بالجائزة الثانية في مسابقة نحت عالمية، وكان المشترك الوحيد من الشرق الأوسط ولازالت الأمم المتحدة تحتفظ للآن بمصغّر برونزي لهذا النصب ضمن مقتنياتها الخاصة، وقد عرض جواد سليم أعماله في الرسم والنحت في واشنطن ونيويورك وشيكاغو ومدن عالمية أخرى عديدة وكانت تلقى من الثناء والإعجاب الشيء الكثير.

ولعلّ المتابع لأعمال الراحل جواد سليم ولإبداعاته التشكيليّة والنحتيّة يدرك بسهولة طبيعة ثقافة الرجل الحياتيّة والفنيّة التي هي عبارة عن مزيج متجانس من الذوق الجمالي للرسم العربي الإسلامي الموروث بمنمنماته وخطوطه وزخرفته ومن المنهج الأوربي الحديث الذي ثقفه أثناء دراسته في أوربا، فضلا عن توجهه الفني الذي يغذّيه حسٌّ ذو إملاءات اجتماعيّة وبيئيّة محليّة، وعن تجاربه الشخصيّة الخاصة والمميزة في بلورة رؤية فكريّة شمولية تنطلق من الخاص والتاريخي لتعانق الإنساني والكوني.

 (نصب الحريّة) الذي ابتدأ العمل به جواد سليم مشاركة مع المعماري العراقي الكبير رفعت الجادرجي عام 1959م هو أشهر الأعمال النحتيّة وأكبرها مساحة مكانيّة في الشرق الأوسط، ويحاكي هذا النصب أعمالا جداريّة عرفها العراقيّون القدماء، وهي أعمال ذات طابع سردي تروي انتصارات الجيوش والأعمال البطوليّة التي أنجزها الإنسان العراقي آنذاك في هيئات متعددة الأشكال كالزقورات والمصاطب السومرية المصممة لتُرى من مكان بعيد، وسوى ذلك من أعمال حفظها تراث وادي الرافدين الزاخر قبل آلاف السنين.

جواد سليم كان يؤرّخ بعمله العملاق هذا للحظة تاريخيّة حاسمة في تاريخ العراق الحديث، وهذه اللحظة تحكي قصة انتقال البلد من الملكيّة الإقطاعيّة إلى النظام الجمهوري عام 1958 في ثورة قادها الجيش وآزرها الشعب للقضاء على الملكية والوصاية الأجنبيّة التي تقف وراءها وتحميها.

ويضم النصب الذي أبدعته مخيلة حرّة أربع عشرة منحوتة تتآزر فيما بينها لتحكي مسيرة حضارة الإنسان العراقي من العهد السومري حتى قيام الجمهورية الأولى في تاريخ العراق، وقد ساعد مستوى ارتفاع النصب (أكثر من ثمانية أمتار) وطوله النسبي (أكثر من خمسين مترا) على توزيع مفردات النصب ومنحوتاته بطريقة تراتبيّة استثمرها سليم للتخلص من الجمود الذي قد تقع فيه المنحوتات البرونزية البارزة ولإسباغ روح الحركة والحياة على كائنات النصب المختلفة بغية تحفيز حاسة البصر المتطلعة للنصب نحو فضاء تأويلي مفتوح لما من الممكن أن توحي به كائنات النصب التي تتخذ هيأة جملة عربيّة نثرية طويلة!

لكن جواد سليم يتعرض لنوبة قلبية شديدة تودي بحياته في 23 كانون الثاني عام 1961 قبل افتتاح النصب بثلاثة أشهر تقريبا، دون أن تكتحل عيناه برؤية مولوده الحبيب، لكن هذا المولود ظلّ يقف بارزا في سماء بغداد يجتمع تحت أفيائه ورموزه كلّ العراقيين بطوائفهم وأديانهم حينما يريدون التعبير عن حبّهم للحياة وللحريّة وللوحدة الوطنيّة، وحينما يرغبون في رفضهم للموت المجاني وللاستبداد والقيود.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 31/آيار/2014 - 1/شعبان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م