ثَقَافَةُ القُبُوْلِ بِالخَسَارَةِ

مُحَمَّد جَواد سُنبَه

 

تَعلَّمَ الانسَانُ العَرَبِيُّ بِشَكلٍ أَعَمٍّ، والعِرَاقِيُّ بِشَكلٍ أَخَصٍّ، أَنْ لا يُحِبَّ الخسَارةَ أو الفَشَلَ، لأَنَّ كُلَّ فَشَلٍ بأَيّ تَجربَةٍ حياتيَّةٍ كانَتْ، تُشْعِرَهُ نَفسيّاً بأَنَّهُ غيرُ مؤَهَّلٍ، لخَوضِ تلك التجربَةِ أو التَّجاربِ، الّتي فَشِلَ في تَحقيقِ النَّجاحِ فيهَا. هذا الشُعورُ النَّفسيُّ المُؤلِمُ، يَجعلُهُ يَشْعِرُ بمَرارةِ الإِحبَاط. وإذا ما تكرَّرتْ عَليْهِ تَجارِبُ الفَشَلِ، فإِنَّهُ يَبْدَأُ بأَخذِ مَواقِفٍ سَلبيَّةٍ أو عُدوانيَّةٍ تِجَاهَ الآخرينَ، وخُصوصاً الّذينَ يُشكِّلونَ، الفَريْقَ المنَافِسَ له.

هَذا الوَجْهُ يُمثِّلُ الجَانِبَ السَّلبيّ، مِن ثَقافَةِ الانسَانِ العَربيّ عُمومَاً، والعِراقِيّ خُصوصَاً. لأَنَّ مَوضوعَ الخَسَارَةِ أو الفَشَلِ، ارتَبَطَ بثَقافَتِهِ وتَربيَتِهِ الأُوْلَى. فكُلُّنَا عِنْدَما كُنَّا في المَدارسِ الابتدَائيَّةِ، ويَفشَلُ أَحَدُنَا في مَادَّةٍ دراسِيَّةِ مُعيَّنَةٍ، فإِنَّهُ بِلا شَكٍّ، سَيُوصَفُ مِن قِبَلِ اقرانِهِ، ومُعلميْهِ وعائلتِهِ، بأَنَّهُ غبيٌّ وكَسولٌ وفَاشِلٌ. ومِن هنا تأسَّستْ في ذَواتِنا، ثقافَةُ أَنَّ (الفَشَلَ عَارٌ).

وهذا التَّوصِيفُ القَاسِي، سيُؤَدّي الى إِصَابَةِ الطّالِبِ اليَافِعِ غيّرِ النَّاجِحِ، بخَيّْبَةِ أَمَلٍ كبيرَةٍ، تَظَلُّ دَفينَةً في أَعماقِ ذاكِرتِهِ اللاشُعوريَّةِ، وإِنْ بَلَغَ مِنَ العُمْرِ عِتيّاً. ولأَجلِ أَنْ يُعيدَ الطالِبُ المُحبَطُ، ثِقتَهُ في نَظَرِ أُسرَتِهِ وأَقرانِهِ، فإِنَّهُ يَبدَأُ بالحديثِ: بأَنَّ أَسئِلةَ الامتِحانِ كانتْ صَعبَةٌ، أو أَنَّها ليسَتْ من كتابِ المَنهَج. أو أَنَّ مُعلِّمَ المادَّةِ الّتي فَشِلَ فيها، يَكُنُّ لَهُ العِدَاءَ الشَّخصِيّ.... الى آخره، من تلكَ التَبريْراتِ السَاذجَة. مِن هذهِ النُّقطَةِ وغيّرِها، تَبدَأُ مَرحَلَةُ التَّكويّنِ الثَّقافيّ، في التَّعامُلِ معَ تجاربِ الفَشَلِ، على أَنَّهُ شَيءٌ مُعيّب. وأَنَّهُ انعكاسٌ لحَالَةِ النَقصِ، في عَوامِلِ الذَّكاءِ أو الكفَاءَةِ الشَّخصيَّة.

بيّنما الغَربيّونَ لا يَتعامَلونَ، معَ تجارِبِ الفَشَلِ، بمثلِ سَلبيَّتِنا في التَّعامُلِ معَها. فَهُم يتَجاوَزونَ النَّظرَةَ السَلبيَّةَ، في التَّعامُلِ مع مُعطياتِ الواقِع. فالغربيّونَ لا يَبنونَ ثَقافَتَهُمْ، إزاءَ تجاربِ الفَشَلِ، بالشَّكلِ الّذي نتعامَلُ بهِ نَحنُ، حَسَبَ موروثِنَا الثَّقافيّ. فإِنَّهُمْ يُرَبُّونَ أَبنَاءَهُم، على تَقَبُلِ حالَةِ الفَشَلِ، وإِخضَاعِها لعمليَّةِ التَّحليلِ والدِّراسَةِ، حتّى يَصِلَ الانسَانُ، الى العَوامِلِ والأَسبَابِ، الّتي أَدَّتْ الى ذلك الفَشَل.

إِذَنْ الأَمْرُ مُختَلِفٌ، بيّنَ ثَقافَتِنا وثَقافَتِهم، في تَنَاولِ الموضُوع. الطَّرحُ الغَربيُّ، يُشجِّعُ على مَعرفَةِ أَسبابِ الفَشَلِ، وإِعادَةِ التجربَةِ، للوصولِ الى النَّجاحِ، بعدَ استِبعادِ العوامِلِ السَلبيَّةِ الّتي، غَفِلَ عَنّها صاحِبُ التجربَةِ، وأَدَّتْ بالنتيجَةِ الى فَشَلِه. إِنَّهُ المَنهَجُ العِلميّ التَّحليليّ، لمعرِفَةِ الأَسبابِ والمُسَبِبات.

بيّنما نَحنُ، نتَناولُ الموضوعَ على أَساسِ، وجُودِ عيّْبٍ أون َقصٍ، في القُدُراتِ والمهَاراتِ التَّكوينيَّةِ، في الشَّخصِ المَعني. إِنَّها نَظريَّةٌ تَحمِلُ في طيّاتِها، إِثارَةَ مَشاعِرِ الأَلَمِ، والإِحبَاطِ النَّفسيَّينِ، عندَ الانسَانِ المُتَّعرضِ لتجرِبَةِ الفَشَل.

 ولا نَستغرِبُ إِذا ما قُلنا أَنَّ فِكرَنَا الإِسلاميّ، قَدّْ سَبَقَ العَالَمَ الغَربِيّ، بعَشَراتِ القُرونِ، عنّدَما أَكَّدَ على التَّعامُلِ، بإيجابيَّةٍ معَ تَجارِبِ الفَشَلِ، على عَكسِ مَا تَذهبُ إِليّهِ، ثَقافَتُنا المُجتَمَعيَّةِ السَّائِدَةِ بَيّنَنا الآن.

كما أَنَّ هذا الفِكْرُ الجَليلُ، قدّْ رَفَدَنا بالكَثيرِ مِنَ النُّصوصِ، الّتي تُؤكِدُ أَنَّ الفَشَلَ والنَّجاحَ، لهُمَا عَوامِلَهُما الموضوعيَّةِ الفَاعلَةِ، بالتَّأثيرِ على نَتائِجِ أَيَّةِ تَجربَةٍ، يَخوضُها الانسَان. ولا أُبَالِغُ عنّدَما أَقُولُ؛ بأَنَّ الفِكْرَ الإِسلاميّ، هو رائدُ مَنْهَجِ التَحليْلِ العِلمِيّ، وهَذا المَنْهَجُ، قَدّْ وَظَّفَهُ الغَربيّونَ لِصَالِحِهِمْ، بشَكْلٍ إِيجَابيّ، ليَكونَ جُزءاً مِن تَجَارِبِهِمْ الحَياتيَّةِ والعِلميَّةِ، بيّنَما نَحنُ قَدّْ تَخَلَّيْنَا عَنهُ، لا بَلّْ قَدّْ نَسيّْناهُ أَيّضاً.

والقُرآنُ الكَريمُ، يتَصَدَّرُ طَليعَةَ الفِكْرِ الإِسْلامِيّ، بتَقديْمِ العَديْدِ مِنَ النُّصوصِ القُرآنيَّةِ المُقدَّسَةِ، الّتي تُؤكِدُ على أَهمِّيَةِ، التَّفَكُرِ والتّدَبُرِ وإِعمالِ العَقْلِ، لتَوّفيرِ صِّحَةِ المُقدِّماتِ، في أَيّ مَوضوعٍ كَانْ، لضَمانِ صِحَّةِ النَّتائجِ فِيْه. وقدّْ عَرَّفَ الفَلاسِفَةُ الإِسلامِيّونَ، هذا المَوضُوعَ، بقَانُونِ (العِلَّةِ والمَعلول).

ومِنَ المُفيدِ، أَنْ أُذَكِّرَ بتجربَةِ الرَّسولِ مُحمَّدٍ(ص)، في مَعركَةِ أُحُدٍ، الّتي تَكَبَّدَ فيها المُسلمونَ، أَفدَحَ الخَسائِرِ، بسبَبِ وجودِ ثَغرَةٍ، في جَبهَةٍ مِن جبهاتِ القِتَال. لكنَّ رسولَ اللهِ (ص)، أَكملَ المِشوارَ الرِّسَالِيّ، مُعَلِّماً النَّاسَ، أَنَّ العَمَلَ الجَادَّ والتَّخْطِيطَ المُسبَقِّ، مِن الوَسائلِ الكَفيْلَةِ، للتَغلُّبِ على عَوامِلِ الفَشَل.

ولكيّ أَضَعَ القَارِئَ الكريمَ، في صُلبِ الفِكرَةِ الّتي أُريْدُ إِيصَالَها إليّه، لابُدَّ مِن وضْعِ، نتَائِجِ الانتخاباتِ البرلمانيَّةِ لعَامِ 2014، والّتي أُعلِنَتْ نَتائِجُها في يَومِ 19/5/ 2014، كمُشْكِلَةٍ يَجِبُ إِخضَاعُها لمَنْهَجِ البَحْث. فهذهِ النَّتائجُ جَعلَتْ، المتأَخرينَ عَن المرتَبَةِ الأُولى، وكذلك غَيّرِ الفَائزينَ، يتصرَّفونَ وِفْقَ ثقَافَةِ (الفَشَلِ عَارٌ). فبَدأَتْ صَفحَةُ حَربِ تَقاذُفِ، تُّهَمَ التَّزويرِ في نَتائجِ الانتِخابَات.

فبالأَمسِ كانَ الطَّالِبُ الفَاشِلُ، يَقولُ: المُعَلِّمَ يُعاديْني.

واليَوّْمَ يقولُ مَن حَصَلَ، على أَصواتٍ ليْسَتْ بمُستَوى الطُّموحِ: أَنَّ القَضَاءَ مُسَيَّسٌ، ولا يُنْظَرُ في طَعنِ الطَّاعِنينَ بالنَّتائج.

وبالأَمسِ كانَ الطَّالِبُ الفَاشِلُ يَقولُ: الأسئلةَ جاءَتْ مِن خَارِجِ، مَادَّةِ المَنهَج.

واليَوّْمَ يَقولُ مَنْ كانَ حَظُهُ، ضَعيْفَاً في نَتائِجِ الانتِخابَاتِ: يوجَدُ تَزويْرٍ في النَّتائج. وهكذا دواليكَ مِنَ الحُجَج.

بِلا شَكٍّ، أَنَّ التَّجارِبَ الدِّيمُقراطيَّةَ، في كُلِّ دُولِ العَالَمِ، تَفْرِضُ وجودَ فَائِزينَ وخَاسرين. ولضَمانِ حقُوقِ الجَّميعِ، وَضَعَتْ الأَنظِمَةُ الدِّيمُقراطيَّةُ، الضَّوابِطَ القَانونيَّةَ الّتي، تَضمَنُ الحُقوقَ للكُلّ، وهذا ما يَحصَلُ في العِراقِ. لقَدّ كانَتْ الانتخاباتُ لهذا العَامِ أكثرَ نُضْجاً وحَدَاثَةً مِن سَابِقاتِها، باستخدامِ أَجهزةٍ الكترونيَّةٍ. كمَا تَمَّ اشْرَاكُ جَميعَ مُمَثلِي، الكيانَاتِ السياسيَّةِ، كمراقبينَ في المراكزِ الانتخابيَّةِ، ومراكِزِ عَدِّ وفَرزِ الأَصوات، عَمَلاً بآلِيَّةِ الشَّفافِيَّةِ الدِّيمُقراطيَّة. إِضَافَةً الى إِشْرَاكِ مُنَظمَّاتٍ عَالميَّةٍ، مُختَلِفَةِ المَشارِدِ والمَوارِد.

أَنَا لا أُنكِرُ وجُودَ مُخالفاتٍ، وهذا يَحدِثُ في الدُّولِ الغربيَّةِ العَريقَةِ، في مَجالِ مُمارَسَةِ العَمَلِ الدِّيمُقراطيّ. لكِنْ القَانُونَ يَضمَنُ الطَّعنَ، في كُلِّ مرحلَةٍ مِن مَراحِلِ، عَمَلِيَّةِ إِجْراءِ الانْتِخابَات. وعلى الجَميعِ الإِيمانِ، بأَنَّ القَانُونَ هو الفَيّْصَلُ بالموضُوع.

والمؤسفُ أَنْ لا أَحَدَ، مِن المتأَخرينَ في تَرتيبِ سُلَّمِ نَتائِجِ الانتِخابَاتِ، وغيّْرِ الفَائزينَ فِيها أّيْضَاً، يُؤمِنُ بقنَاعَةٍ تَامَّةٍ، بأَنَّ الحَكَمَ هو القَضاءُ وسُلْطَةُ القَانُون. وهذا خَلَلٌ كبيرٌ، في مُتَبنَّياتِ العمَلِ الدِّيمُقراطيّ. فَمَنْ يُؤْمِنُ بالدِّيمُقراطيَّةِ، يَجبُ عَليّْهِ الإِيمانُ بشَكلٍ كامِلٍ، بكُلِّ آليّاتِهَا وأَنظِمَتِهَا وقَوانِينِهَا. وبعكسِ ذلكَ، سنَسْتَمرُّ سَائِرينَ، على مَنهَجِ عَدَمِ الاعترَافِ بالفَشَلِ، وإِعادَةِ اجتِرارِ ثَقافَةِ الدِّراسَةِ الابتِدائيَّةِ، أَنَّ (الفَشَلَ عَارٌ).

وكانَ يَنْبَغي على أُولئكَ المُعتَرِضِينَ، أَنْ يُشَكِّلوا لِجانَاً بَحثيَّةً مِنَ المُختَصِّينَ، ليَدرِسُوا بعُمْقٍ، وَقَائِعَ أَسبَابِ عَدَمِ النَّجَاحِ، والتَّفتِيْشِ عَنّْها بمَوضُوعيَّةٍ صَارِمَةٍ، وإِجراءِ تَحليْلٍ عِلميٍّ دَقيْقٍ، لمعرفَةِ الأَسْبابِ الّتي أَدَّتْ، الى هذهِ النَّتائِجِ السَلبيَّة. وبالنتيجَةِ سَتكونُ الجِهَةُ القَائِمَةُ بالتَّفتِيشِ، عَن أَسبابِ عَدَمِ تَحقِيْقِ الفَوّْزِ، على دِرايَةٍ كامِلَةٍ بأَسبَابِه. وبالتَّالي تستَطيعُ هذهِ الجِّهَاتُ، وضعَ الخُطَطِ اللازمَةِ للتَغلُّبِ، على أَسبابِ الإِخْفَاقِ، ومنْعِ تِكرارهِ مُستقبلاً.

بهذهِ الطَّريقَةِ فقَطّ، سَيَرتَقي مُجتَمَعُنَا، إلى ثَقَافَةِ الاستِفادَةِ مِنَ الأَخطَاءِ، وتَحويْلِ الفَشَلِ الى نَجَاح. وتلكَ غايَةٌ لا تُدرَكُ، مَالمْ يَبدأْ أَصحابُ القَرارِ، في الكُتَلِ السِياسيَّةِ، باعتِمادِ مَنهَجِ القَبُولِ، بنتَائِجِ الأَمْرِ الوَاقِعِ، والتَّخلّي عَن أَحلامِ العَظَمَةِ، الّتي تُسْهِمُ في مُضَاعَفَةِ الفَشَلِ مُستَقبلاً. كمَا يَجبُ علَيّهِمْ باعتِبَارِهِمْ، مِنَ النُّخَبِ الاجتِمَاعِيَّةِ، تَعْلِيْمُ عامَّةَ المُجتمعِ، على الالتِزامِ بالقَانُونِ، والكَفِّ عَنْ كَيْلِ التُّهَمِ جُزَافاً. واللهُ تَعالى مِنْ وَراءِ القَصّْد.

* كاتِبٌ وبَاحِثٌ عِرَاقي

[email protected]

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 28/آيار/2014 - 27/رجب/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م