إمام القلوب

منتظر الشيخ أحمد

 

لم تفهم الكثير من الأنظمة أن الشعوب المنتفضة والثائرة لم تحركها فقط الحاجة الى الماديات، بل إن محركها الرئيسي هو الحاجة الى تلك القيّم التي اغتصبتها تلك الأنظمة الديكتاتورية المتعجرفة، القيّم الإنسانية التي يراها الناس متوفرة في دول غربية مدونة في أعلى دساتيرها كالكرامة الإنسانية التي انطلقت منها قوانين الدستور الألماني، حيث ينص في الفقرة الاولى من المادة الاولى من الدستور الالماني هذه الصيغة (كرامة الانسان غير قابلة للمساس بها، فاحترامها وحمايتها يمثلان واجباً الزاميا على جميع سلطات الدولة)، والكرامة لا تقتضي توفير الحياة المادية وحسب، بل توفير شروطها المعنوية والمادية.

الكرامة التي كانت منتهكة بجميع صورها في عهد الدولة الأموية حتى انهالت عليهم الثورات، ثورة بعد أخرى، حتى ضعفت قوتها، وانتهت على يد العباسيين الذين خطفوا كل الثورات وأبدلوا نظام ديكتاتوري متجبر، بنظام آخر، على طريقة المثل المعروف (تمخض الجبل فأنجب فأراً)!.

هنا يتضح لنا أن الأمة التي كانت تعاني من مُر الدولة الأموية؛ كانت تعاني كذلك من مشكلة فكرية حقيقية مترسبة أدت بها الى صناعة نظام ديكتاتوري بديل عن نظام ديكتاتوري آخر، لهذا كانت الأمة بحاجة الى ثورة فكرية قبل الثورة السياسية، وهنا كان الأئمة الأطهار(عليهم السلام) يعملون عليها خصوصاً في الفترة التي كانت تشهد حراك سياسي عميق جعل النظام الأموي ينشغل بعض الشيء مما أتاح فسحة لتأسيس مدارس فكرية وعلمية في كل المجالات في عهد الإمامين الباقر والصادق(عليهم السلام)، واستمرت الى عهد الإمام الكاظم(عليه السلام) الذي استطاع أن يكون امام المواجهة وقائدا سياسيا ومعارضا وزعيما روحيا للامة حتى قال لهارون العباسي حين سأله أنت الذي تبايع الناس سراً؟ فقال له الإمام (عليه السلام): أنا إمام القلوب وأنت إمام الجسوم.

امتازت ثورة الإمام الكاظم (عليه السلام) بالتنظيم والرؤية الثورية الثاقبة والهادئة التي اخترقت النظام العباسي في كل مفاصله، حتى وصلت الى داخل قلب الحكومة العباسية، من وزراء وقضاة مقربين لها، بل زادت حتى صارت في البيت العباسي نفسه.

ولما ايقنت السلطة العباسية بخطورة الاهداف التي كانت الحركة الرسالية بقيادة الامام الكاظم (عليه السلام) تسعى الى تحقيقها ، ولكنها في نفس الوقت لم تكن تتمكن من كشف مخططات الحركة الرسالية الامر الذي فكرت السلطات العباسية معه بضرب رأس الحركة مهما كلف الامر، فعمدت الى سجن الامام الذي سجن اغلب ايام حياته، متخذة اسلوب الأمويين في تغييب القيادة والرموز حتى تستطيع من خنق حركات المعارضة وشلها، ولكن "دور الحركات الرسالية الثورية لم يضعف، بل كان الامام وعبر الرساليين المؤمنين بحركته داخل جهاز السلطة، يقود الحركة ويدير اعمالها وهو في السجن، الامر الذي جعل السلطة في حالة هستيريا ونقله من سجن الى سجن ...لأن استمرار الحركة الرسالية يهدد الدولة العباسية يوما بعد يوم وهم يعرفون ان هذه الحركة هي امتداد للرسالة المحمدية ويعرفون ان الحركة لا ينقصها الأموال فالرساليون يدفعون الخمس والزكاة الى الامام المفترض الطاعة.

  لقد عمل الامام الكاظم (عليه السلام) على تنمية الوعي السياسي والديني عند الجماهير المحرومة والموالي وصغار التجار وممن يصلح من عناصر النظام وليس اقطابه ومن ثم تربية مجموعة من القادة الذين لايبيعون أنفسهم لملذات ومغريات هذه الدنيا الفانية ... لان الاغراءات التي كانت موجهة من النظام العباسي كانت كبيره وضخمه...لأن الطبقة التي كانت تحكم البلاد في عهد هارون العباسي هي طبقة البيت العباسي بفروعه المنتشرة وطبقة العسكريين الكبار والدهاقنة العلوج الذين هم من جنسيات مختلفة ... فقد أخذت هذه الطبقات باستثمار جهود الفلاحين وطاقات التجار فقد كانوا يتعاونون في سبيل امتصاص واستعباد هذه الطبقات المحرومة. لذلك عمل الإمام على هذا العمل التعبوي والتربية الإسلامية. بينما الخلفاء يريدون تطميع الناس وارشاءهم وشراء ضمائرهم وتكوين مجموعة من المرتزقة والمنتفعين حولهم ليحاربوا الائمه أصحاب الحق الشرعي".

لقد ضحى الإمام الكاظم (عليه السلام) بنفسه الشريفة من أجل أن يكسر حاجز الخوف عند الناس، ويزلزل مملكة الظلم التي شيدها العباسيون على أعناق وأكتاف المحرومين الذي سعوا وضحوا لإسقاط النظام الأموي الفاشي، وعلى سيرته الشريفة سار علمائنا الأحرار المجاهدين، الذين سعوا في بث الوعي الى الناس، وكسر حاجز الخوف لديهم من عصا السلطان، وكسروا هيبة الأنظمة المتعجرفة، وهاهم يدفعون ثمن هذا السلوك الرسالي المحمدي، بنفس الخط والسيرة التي سار عليها الأئمة الأطهار، بالسجن والتغييب، والتصفية الجسدية.

الكاظميون اليوم المغيبون كإمامهم في طوامير السجون لم يكن لهم طمعاً في دنيا، بل يعلمون أن مصيرهم السجن أو الشهادة في سبيل تلك القيم السماوية التي آمنوا بها، وسعوا لزراعتها في قلوب الناس، فلم يبيعوا القضية، ولم يقبلوا رشوة السلطان، بل وقفوا في صف المظلومين والمقهورين والمستضعفين في الأرض.

فالسلام على الامام المغيب في قعر السجون، السلام على الامام الصابر، السلام على الامام المحتسب، السلام على الكاظم من آل محمد (عليهم السلام).

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 24/آيار/2014 - 23/رجب/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م