في التغيير الذاتي.. الرؤية المستقبلية ومتانة الموقف

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: كيف نضمن المستقبل لأبنائنا الصغار وجيلنا الصاعد، وأحدنا تكاد نظرته لا تتجاوز أرنبة أنفه، ويجتهد حصراً في تحقيق ذاته ومصالحه ليومه ولا عليه بقادم الايام. حقاً؛ أن البعض يفكر بانه "ابن اليوم" ولا غد أمامه، فاذا حصل على مكسب معين، او نجاح بسيط في حياته اليومية، يتصور أنه يقف على حافة التاريخ ولا شيء أمامه بتاتاً، فقد حقق الفتح المبين..! أما اذا نزلت به نازلة او تعرض لخسارة وسقط في خطأ معين، فان شعوره بنفس الاتجاه، اليأس والاحباط والوقوف على حافة الهاوية.

ان الشعوب والأمم التي كافحت من اجل التحرر والتغيير، كان لديها بدايةً الرؤية المستقبلية والبعيدة المدى، فالمآسي والآلام التي تعيشها في يومها الحاضر، لم يكن يمنعها من التفكير الشامل، بمعنى؛ لم يكن الهمّ والجهد كله مركز على توفير الخبز والماء والمحروقات للناس المحاصرين بسبب الحروب او الازمات الاقتصادية او الامنية. إنما لتوفير كل هذا واكثر بكثير على مدى السنوات القادمة.

ولعل خير مصداق لما نذهب اليه ما قاله الجنرال ديغول عندما كان خلال احتلال بلاده من قبل جيوش هتلر، في ضيافة البريطانيين والأمريكيين، وقد سمع همساً هناك وهناك حول المقابل الذي يجب ان يحصلون عليه في فرنسا بعد التحرير، فقال: "سنقوم باحتساب كل المساعدات التي قدموها لنا خلال الحرب ونعيدها اليهم..". في مقابل هذا، نلاحظ شعوب ابتليت بقادة همّهم ما يحصلون عليه من أموال ومناصب وامتيازات، كما لو أنه لا وجود للمستقبل، ولا حظّ للأطفال الصغار بالعيش الكريم في السنين القادمة. ومن اجل ذلك نرى هشاشة الموقف والتبعية في اتخاذ القرارات المصيرية، ولمن يريد الدليل على ذلك، ففي بلادنا الكثير من الأمثلة، حيث تعيش شعوبنا في دوامة لا تتوقف من الازمات والمشاكل، حتى يخيل الى البعض أن لا خروج من النفق المظلم.

ان متانة الموقف إزاء قضايا مصيرية في السياسة والاقتصاد والأمن وغيرها، لا يأتي بالمجان، إنما بالتضحيات والتحديات، فتكون النتيجة باهرة. لذا نجد سماحة الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- يؤكد على هذا الشرط في مشروع التغيير الكبير في كتابه "ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين". حيث يقول: "على ممارسي التغيير التسلح بالرؤية البعيدة حتى يتمكنوا من تمييز الصحيح عن الفاسد، وما يوصل عما لا يوصل..". وفي معرض اشارته الى قوة الموقف التي توفرها الرؤية البعيدة، يستشهد سماحته بأسلوب التعامل الذي اتبعه نصير الدين الطوسي – رضوان الله عليه- مع القائد المغولي في بغداد في سبيل إنقاذ ما يمكن انقاذه من البلاد والعباد وحقن ما أمكن من الدماء وحفظ التراث والممتلكات، بعد مسلسل الفظائع التي شهدتها المدينة وعموم العراق، حيث تمكن الشيخ من السيطرة على مشاعر وعقل القائد المغولي من خلال ترغيبه باعتماد علم الفلك للاستفادة منه في قراءة المستقبل وما يخبيه من خسائر او كوارث تصيب الجيش المغولي، وبين له إن معرفة المستقبل تخفف من وطأة الحدث في حينه، فلا يكون مباغتاً ولا مفاجئاً، الامر الذي استحسنه الملك المغولي. علماً أن الشيخ نصير الدين الطوسي، طلب من الملك المغولي إفساح المجال امام علماء المسلمين والسماح بتأليف الكتب واستعادة المكتبات الضائعة ثم استعادة الموقوفات التي كانت تمول تلكم المؤسسات العلمية والبحثية.

لذا نجد ان الامام الشيرازي يعد "عدم بعد النظر من سمات المجتمع المنحطّ.. بالاضافة الى أن عدم بعدم النظر يسبب للأمم مشاكل لا تعد ولا تحصى وأحياناً، تُباد الأمة بسبب هذه المشكلة.."، ويستذكر سماحته الحروب الكارثية التي زُجّ بها الشعب العراقي بسبب مغامرات ونزوات الحاكم الأوحد. ويشير الى معرفة الفرد العراقي بعبثية الحروب التي يقاتل فيها، منذ الحرب مع الاكراد، ثم الحرب مع ايران وبعدها مع الكويت، بيد ان عاجز عن فعل شيء.

وهنالك نوع آخر من متانة الموقف وشموخ المكانة السياسية والاجتماعية، فربما يكون الشعب معرضاً لهجوم او غزو همجي – بربري كالذي حصل إبان العزو المغولي للعراق، واحياناً قد يتعرض الشعب العراقي، وأي شعب آخر الى غزو من نوع جديد يرتدي لباس التحرير والانقاذ والمساعدة على تحقيق الافضل. وهذا ما برع فيه الاستعمار البريطاني تحديداً منذ انهيار الدولة العثمانية وتفكك العالم الاسلامي وتخلّص معظم البلاد الاسلامية من السياسات التعسفية والظالمة للعثمانيين. فهذا ايضاً بحاجة الى نوع آخر من التعامل وفق منهجية الرؤية البعيدة والمستقبلية. فالبريطانيون اتبعوا اسلوباً آخراً مع بعض افراد الشعب العراقي لكسب ولائه، وذلك من خلال الرشوة والترغيب بالامتيازات والمناصب، وهو الاسلوب الذي تعلمه الحكام في مرحلة ما بعد الاستعمار في العراق.

والحال ينسحب على عديد الدول الإسلامية، لاسيما في المرحلة الراهنة حيث تشهد الساحة صعود تيارات ثقافية ذات طابع ديني الى قمة السلطة او تشارك بشكل أو بآخر في الحكم، لذا فان تداعيات قصر النظر والتفكير المحدود بالمصالح الضيقة، تكون على درجة كبيرة من الخطورة ليس فقط على الوضع المعيشي للناس. إنما على عقيدتهم وهويتهم الثقافية، وهذا ما يحذر منه الامام الشيرازي – قدس سره- بشدة عندما يشير الى أولئك الذين لهم الاستعداد لأن "ينصرون الظالم ويبيعون بلادهم، فان عاقبتهم الخزي والدمار والعار..". ويضيف سماحته موضحاً؛ "ان امثال هؤلاء الحكام الجائرين والعلماء والمرتبطين بالجهات الاجنبية، يكونوا السبب في خروج الناس من دين الله – تعالى".

من هنا نفهم خطورة قصر النظر وضيق الأفق لدى بعض النخب السياسية والثقافية، فهي تتصور أنها تنجز شيئاً للحال الحاضر بناءً على نظرية "الامر الواقع"، في حين انهم باصرارهم على هذا المقدار الشحيح من الرؤية، يضحون بحاضر ومستقبل الشعب والاجيال القادمة، حيث الحرمان والتخلف، وانتشار حالة اليأس والتشكيك والخذلان، كما فعل ذلك ساسة ومثقفون وعلماء في العقود الماضية، فجعلوا هذا الشعب او ذاك يجد من العبث التفكير في الابداع والعمل من اجل المستقبل الذي لا يرون له أية ملامح.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 24/آيار/2014 - 23/رجب/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م