في التغيير الذاتي.. تفجير الطاقات

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: هنالك تصور لدى بعض الشعوب ان أفضل خيار للتقدم الاقتصادي في مجال الصناعة الزراعة والطاقة وغيرها، إنما يتم من خلال الاستثمار وإفساح المجال امام الشركات الأجنبية ذات التجارب والخبرات الكبيرة، إضافة الى الإمكانات التقنية والمالية، لتحقيق الانجازات في مجال العمران والإنتاج وحتى التصدير. وهذا في جانب منه صحيح وفكرة حسنة وواردة في عالم الاقتصاد، بيد انها على المدى البعيد لن تجلب للبلد والمواطن سوى التبعية والتخلّف المقنع.

بينما لننظر الى نفس تلكم الشركات والمؤسسات المالية والتجارية العالمية، كيف وصلت الى هذا النجاح الباهر أينما حلّت ورحلت في أنحاء العالم؟

مثالنا في ذلك؛ الصين او كوريا الجنوبية.. فهي من البلاد النامية، إلا انها بدأت مشوارها في المرقاة الاولى، بالبحث عن الطاقات والكفاءات والمهارات بين مواطنيها، سواءً بين طلبة المدارس او بين المزارعين او العمال. فكل واحد من هؤلاء يحمل شيئاً من الابداع في مجال عمله واختصاصه، حتى التلميذ الصغير في المدرسة، فان لديه قدرات مخزونة في اعماقه، فيأتون ويساعدونه على استخراجها وصقلها لتكون عامل آخر يضاف الى عوامل التقدم ليديه.

وفي بلادنا، حيث الانسان، هو الانسان، هنالك العديد من يختزن الطاقات الذهنية والفكرية لكن المشكلة أنه لا يجد الظروف والأجواء المناسبة للكشف عنها او اختبارها، بسبب وجود ما يعتقد انه الافضل امامه، ولا يحتاجه أحد. هذه الرؤية طالما عالجها الاسلام ولم يسمح للإنسان بأن يتلبّس بها واتخاذها مبرراً للتقاعس والكسل، وتذكيره دائماً بانه ذو منزلة خاصة عن سائر المخلوقات، ثم انه مسؤول وقادر على التغيير والإصلاح في الحياة.. {ولقد كرمنا بني آدم..}، ولعل خير من يجسّد هذه الفكرة، أمير المؤمنين، عليه السلام، عندما قال: "أتزعم أنك جرمٌ صغير وفيك انطوى العالم الأكبر".

يكفي الإنسان العزيمة والتحرك ليجد انه يمتلك الكثير، وقد مثل بعض الحكماء، الإنسان بمحبرة مملوءةً بالحبر، فإن وجدت القلم والقرطاس والكاتب القدير صارت القطرات الصغيرة كتاباً عظيماً يستفيد منه الملايين، واذا انقلبت على الطاولة، فانها لن تساوي شيئاً. هكذا الشعوب الناهضة التي تتقدم برجالها وشبابها ومبدعيها، فالدول المتقدمة فيما يسمى بـ" العالم النامي"، لم تتمكن من تجاوز حالة التخلف والتبعية، إلا بخوض التجارب واختراق جدران الأكاديميات ومراكز البحوث وورشات العمل وغيرها عبر العالم، وهي إحدى وسائل اكتشاف الذات وتفجير الطاقات.

من هنا نعرف أن تفجير الطاقات تُعد من السمات الأساس للمجتمع المتقدم. وهذا تحديداً ما يؤكده سماحة الامام الراحل السيد محمد  الحسيني الشيرازي – رحمه الله- في كتابه "ممارسة التغيير لانقاذ المسلمين"، حيث يعد بالمقابل تعطيل القدرات وكبحها، من الصفات الرئيسية للمجتمع المتخلف. لذا فهو يدعو لمن يطمح بجد الى التغيير الحقيقي في الأمة لأن يلتفت الى الطاقات المخزونة في النفوس، ومحاولة استخراجها وصقلها ثم الاستفادة منها بأحسن وجه لما يساعد على النمو والتقدم في المجالات الزراعية والصناعية وحتى الثقافية. وفي الوقت نفسه يحذر من حالات سلبية عديدة هي عدوٌ لدود لهذه الطاقات، او بالحقيقة هي عامل قتل وفناء لها:

1- هدر الطاقات

إن الماء العذب والتربة الخصبة والشمس الساطعة والهواء الطيب، كلها نعم وفرص ذهبية لأن تجعل بلداً يعيش النعيم من حيث وفرة المحاصيل الزراعية، أما اذا أهمل كل ذلك، فان الارض تتحول الى جرداء قاحلة، ربما تصدر للناس الأتربة والغبار عندما تهب الرياح العاتية.. كذلك طاقات الانسان العديدة، فهي موزعة بين افراد المجتمع، بين من يحمل طاقة فكرية صالحة للتخطيط، وآخر يحمل طاقة ذهنية صالحة للابداع، وآخر طاقة عضلية قادرة الانتاج بأقصى سرعة ممكنة، وهكذا سائر الطاقات في مجالات عديدة بالامكان استثمارها والاستفادة منها حتى ولو بشكل محدود وأولي، على أمل الاستفادة القصوى والكاملة في مشاريع أكبر.

2- بعثرة الطاقات

ربما تكون هنالك طاقات وكفاءات علمية وتقنية وفنية في شعب ما، لكن لا يلحظ الاستفادة منها بسبب عدم تركيزها على هدف واحد ومسير واحد، وهذه معضلة تتدخل فيها جوانب نفسية في بعض المجتمعات، فربما يجد البعض طاقاته وكفاءاته جديرة في حقل ما، بينما يرى البعض الآخر خلاف ذلك، مثال ذلك، الرأسمال المحدود، اذا قسمناه في وجهات متعددة، قسمٌ في الزراعة، وآخر في الصناعة، وآخر للفن وهكذا.. فان النتيجة – وإن أتت- لن تكون بالمستوى المطلوب، إذا لم تكن بدرجات ضعيفة غير مؤثرة في مسيرة التقدم.

ولا ننسى أن الوقت، يعد من أدوات تفجير الطاقات وصقل المواهب، فاذا بذلنا ساعة على هذه القضية، وساعة اخرى على قضية ثانية وهكذا، لن نجني شيئاً في نهاية المطاف، سوى مجموعة محاولات فاشلة.

صحيح، اننا بحاجة الى التطوير في مجالات عديدة، وليس بوسعنا الانتظار طويلاً مع التطورات السريعة التي نشهدها في العالم، بيد أن الصحيح ايضاً التفكير في النتيجة وهي العبرة الأساس، فالطاقات والكفاءات لن تتفجر مرة واحدة وتدخل مضمار المنافسة في العالم، وهذا ما شهدناه في بلاد العالم المتفوقة في غير مجال علمي واقتصادي، فانها بدايةً بدأت تقدمها في مجال ما، مثل الطب او التكنولوجيا، او الصناعات الثقيلة، ثم تحولوا الى المجالات الاخرى، مثل الزراعة والصناعات الخفيفة وحتى التصنيع العسكري.

3- الاستفادة النسبية من الطاقات

وهذه مشكلة أخرى تعاني منها معظم بلادنا، فنرى الجميع يعملون ويفكرون ويبدعون، لكن ليس بأقصى جهدهم، إنما بقدر بسيط، ربما لتحقيق مصالح خاصة او تسجيل حضور.. وهذا ربما تكون له اسباب نفسية في داخل الانسان، إذ يشعر انه مطالب بما يجهده ويتعبه، لذا يكتفي بالقدر القليل من العطاء. هذا النزوع الى الراحة والانبساط هو الذي أدى الى تخلفنا عن الآخرين، ثم سقوطنا في مستنقع التبعية والحاجة المفرطة، كما هو حال العديد من بلادنا. يقول الإمام الصادق عليه السلام، لأصحابه: "لا تتمنوا المستحيل.. قالوا: ومن يتمنى المستحيل؟ فقال: ألستم تتمنون الراحة في الدنيا؟ قالوا: بلى، فقال: إن الراحة في الدنيا لمستحيلة".

ويستذكر سماحة الامام الشيرازي ما ذكره في كتابه "بقايا حضارة الإسلام كما رأيت"، ويبين ان هنالك "فرق بين الراحة المطلقة التي هي مستحيلة في الدنيا وبين الراحة النسبية التي لا يواجه الإنسان - فيما إذا كان في تلك الراحة - إلا قدراً جزئياً من التعب الذي هو حتم على الإنسان وخارج عن دائرة اختياره، فعلى الإنسان أن يعمل بكل ما أوتي من القدرة والقوى لكي يفجر طاقاته، وإذا كان المجتمع مجتمعاً متخلفاً يجب عليه تغييره حتى يهيئ الجو المناسب، فإذا لم يكن الجو مناسباً أو كان الإنسان يطلب الراحة والدعة أو كان جاهلاً بما فيه من القدرات كان المجتمع متخلفاً..".

4- التوجيه الخاطئ للطاقات

عندما نفكر في تفجير الطاقات، ينبغي التفكير في الوقت نفسه في المسارات والروافد الصحيحة التي نصب فيها هذه الطاقات، وكثيراً ما يحصل ان توجه طاقات هائلة وغنية في مجالات خاطئة، ومثالنا البارز، الشخص المناسب في المكان غير المناسب، فربما يكون في مكان آخر ومناسب اكثر قدرة على اختبار كفاءاته ومواهبه.

من هنا؛ تكون مسؤولية المجتمع بكل فئاته وشرائحه، كبيرة جداً في تحويل هذه الحالات السلبية الى حالات ايجابية بناءة للانطلاق بالقدرات والكفاءات الكامنة في طريق التقدم، وهذه بدورها بحاجة الى تضافر جهود وارادة وعزيمة من الجميع، وليس من شخص واحد، حيث الفرد المبدع والكفوء والنابغة في المجتمع، يجب ان يعضده المسؤول في الدولة، كما تشجعه مؤسسات المجتمع المدني والمراكز التعليمية والبحثية.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 17/آيار/2014 - 16/رجب/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م