الاختلاف

اعداد: حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: في اواخر الستينيات من القرن المنصرم،  ظهر الاختلاف باعتباره مصطلحا مفتاحيا في السياسة الثقافية، واصبح مبدأ مركزيا في الخيال والتفكير السياسيين عند عدد واسع مما يسمى بالحركات الاجتماعية الجديدة التي تكاثرت منذ اواخر القرن العشرين.  

في السياقات التي ظهرت فيها كلمة الاختلاف، والتي تعني حرفيا (سمة عدم المشابهة او عدم المماثلة) تفقد براءتها الوصفية لتغدو مفهوما مشحونا الى حد كبير، بحيث ترتفع الى شعار يتباهى بقضية سياسية مشبوبة الحماس، غالبا ماتكون قضية سياسية – شخصية.

الحق في الاختلاف هو احد الشعارات العامة في هذه القضية، حيث يتم تحويل الاختلاف الى راس مال، او يحرك كمؤشر ايجابي على الهوية. 

يمثل الاختلاف الاساس او الشرط لامكان وجود اشكال معارضة متنوعة لسياسات الهوية، التي تعمل اثارها التحريرية على فضح الثقافة المسيطرة وكذلك تتحداها في العالم الغربي المتقدم في النصف الثلاني من القرن العشرين.

يقول هيدغر في تعريفه للهوية والاختلاف (ليست الذاتية هي التطابق، في التطابق يمحى كل اختلاف أما في الذاتية فإن الاختلافات تنجلي و تظهر).

لقد تمثل معظم الفلاسفة والمفكرين الهوية قبل هيغل كوحدة وتطابق وكنقيض للاختلاف، لكن مع مجيء هيغل أصبح الحديث عن الهوية مقترن بالحديث عن الاختلاف و التغير، فإذا كانت الهوية ترد إلى الوحدة فإن هذه الوحدة اختلاف وتغير .

إن الاختلاف الذي يتكلم عنه هيغل هو الاختلاف الذي يرجع التنوع والتعدد إلى التعارض والتناقض، يقول هيغل (إن التنوع والتعدد لا ينتعش ولا يحي إلا إذا ذهب به إلى حد التناقض).

وفقا لمفاهيم البنيوية التي يؤيدها عالم اللغة فردينان دي سوسير يمثل الاختلاف، الاساس الذي بناء عليه يكون للعلامات معنى. والاختلاف بهذا المفهوم، يشير الى ما بين عناصر اللغة من فروق لفظية مترابطة بنيويا حال وجودها في مواقعها التي تشغلها داخل نظام العلاملات التي تتكون منها اللغة.

في اواخر القرن العشرين صار الاصرار الاجتماعي للجماعات على تاكيد اختلافها والمطالب السياسية للاعتراف بها مظهرا كلي الحضور، ومابرح يتخذ باستمرار شكل معيار للحياة في الديمقراطيات الغربية، مع تضمينات جادة لسلوك المؤسسات العامة وحكم الدولة الحديثة. ويتوفر خير مثال على الاعتراف الذي تقوده الدولة بالاختلاف في سياسة النزعة الثقافية التعددية، التي تقر رسميا وتقدس الاختلافات العرقية، واللغوية، والثقافية، داخل الاطار الشامل للدولة.

اصبح الاختلاف حجر الزاوية في التنوع: ذلك ان التنوع نظرة ادارية تحيط بميدان الاختلافات، الذي يحتاج الى ان يحاط بالانسجام، او السيطرة او التناغم، في كل متماسك.

مع نهاية القرن العشرين، بدات ومازالت تظهر علامات متزايدة على النفور من التثبيت المتواصل للاختلاف، في كل من النظرية والسياسة. وقد عبر المؤلف الامريكي تود غيتلن عن هذا النفور في عنوان كتابه الصادر عام 1995 افول الاحلام المشتركة. ويتذمر المثقف البريطاني تيري ايغلتون في بيان كتابه فكرة الثقافة من (توثين الاختلاف الثقافي). وفي سياق اوسع يتجاوب هذا مع انبعاث متزايد لمعنى اكثر سلبية للاختلاف في العالم الاجتماعي: الاختلاف كانقسام.   

الاختلاف قيمة إنسانية عليا، لو تأملها الإنسان قليلاً، فقبول المختلف ضمن الحدود التي لا تلغي أحدا ولا تجعل فكراً يطغى على فكر آخر، بل إن أولى مراحل التطور الثقافي، هي قبول المجتمع الواحد للمختلفين عنه، وعادة ما يكونون الشباب بقيمهم ودوائرهم الثقافية الخاصة، ولو استطاع البشر فهم الأبعاد الإنسانية للاختلاف لما ظهرت العنصريات البغيضة من جهة، ولما انشغل الإنسان بتدمير ذاته الإنسانية من جهة أخرى، لذلك فإن الحرص على استمرار القيمة الواحدة هو بداية للانغلاق الذي يمثل هذه النهاية، والمنغلق يحرص على محاربة القيم المختلفة عنه، على الرغم من أن هذه القيم المختلفة هي استمرار لوجوده أصلاً.

لقد اصبحت شقة الاختلاف بين الافراد والمجتمعات أكثر وضوحا، وأكثر اتساعا، باختلاف الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واختلاف العصور، وتباين الأجيال، كما أن اختلاف المواقع، وتباين الأهداف والمصالح، يؤدي عادة للاختلاف في تكوين الآراء، وفي صياغة الأفكار، والاختلاف في المواقف، وفي طريقة التعبير عنها. 

تبرز الكثير من الاشكاليات في إنكار الحق في الاختلاف في السياسة على سبيل المثال، عندما يتميز سلوك الطرف المالك للسلطة، بعدم قبول الحوار، وعدم التنازل عن الموقع المتميز، أو المتفوق، للمشاركة على أرض التكافؤ في المناقشة، ويعتبر أن ما يقوله بمثابة أوامر نهائية، لا تقبل التعديل أو الإلغاء، ولا تحتاج إلى اقتناع الطرف الآخر، وأن عدم الأخذ بها، أو حتى انتقادها يكون من قبيل الخروج عن طاعة السلطة، والانحراف عن النهج الذي تعتبر أنه لا بديل عنه.

وفي معظم المجتمعات التي لم تنل حظها الكافي من التحضر، ما زالت التقاليد الاجتماعية الموروثة، والثقافة السياسية المتخلفة، تحول دون ممارسة الحق في الاختلاف، وتعوق ترسيخ قواعد الحوار، الذي ينطلق من القبول بواقع التعدد، ووجود الرأي المخالف، والاعتراف للآخر بحريته في التفكير، وحقه في إبداء الآراء المغايرة، والتعبير عن تصورات واجتهادات جديدة ولو كانت تنقض ما كان سائدا قبلها، أو لا تنسجم مع ما تقول به الجهة الماسكة بزمام السلطة. 

الثقافات تستوعب حق الإنسان في أن يكون مختلفاً عن الآخرين، ولكن البشر لا يستوعبون ذلك، وربما كان الدافع الأول لهذا الرفض هو المصالح واحتكارها، فبرغم أنه ليس من حق مجموعة من الأفراد مصادرة حقوق الآخرين في الاختلاف عنهم، إلا أن استخدام الإكراه والإجبار والاستعباد-لا سيما للضعفاء- سمة بشرية يمكن ملاحظتها في تاريخ كل المجتمعات البشرية، ولم يتخل عنها البشر إلا بعد الخبرة التي اكتسبوها من التحضر وتشريع القوانين، وإيجاد حد أدنى للتعايش بينهم، ولا سيما أن الاختلاف ليس مبرراً لوجود الصراع والقمع والكراهية، وهي أدوات تستخدم للسيطرة على قيمة الاختلاف من أجل تأمين المصالح واستمرارها، فنزوع الأفراد والجماعات إلى التسلط هو رغبة في فرض الهيمنة والوصاية على العقل الجمعي، للتحكم بقيمة الاختلاف الذي يشكل خطراً على النمط الواحد.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 10/آيار/2014 - 9/رجب/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م