التغيير الذاتي وصناعة القدرة المالية

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: كل الشعوب والأمم الناهضة التي أصلحت وغيرت ثم تقدمت، واجهت مشكلة "المال"، الموجود بالدرجة الاولى عن الحاكم المسيطر على الثروات العامة، مثل النفط والمعادن والمناجم والمياه، ثم من بعده الطبقة الثرية التي تسيطر هي الاخرى على جزء آخر من الثروة مثل الزراعة والصناعة والتجارة. فهي دائماً تشكل الخط المحافظ ذو العلاقة المصلحية المتبادلة مع السلطة، المتسالم على نبذ التغيير. لذا يتعين على اصحاب التغيير الشامل من حالة الحرمان والاستبداد والتخلف الى ما هو عكس ذلك، التفكير بالبديل وعدم التوقف عن هذه الازمة.

كثيرة هي الأمثلة لحركات تغيير كبيرة شهدها العالم خلال القرن الماضي، بعضها حقق طموح الشعب الثائر في التحرر والتقدم، مثل الشعب الهندي الذي تجرد من كل شيء إلا إرادة التغيير والاستغناء عن الآخرين واكتفاء الهنود بقطعة قماش يسترون بها بدنهم، وقطعة خبز يسدون بها رمقهم، وبذلك اجبروا سلطات الاستعمار البريطاني للرضوخ الى مطالبهم. بينما هنالك اكثر من مثال عن شعوب تحمل طموحات وآمال عريضة بالتحرر والسيادة الكرامة، بيد ان الممثلين المفترضين لهذه الشعوب ذهبوا بالطموحات والآمال الى حيث دهاليز التحالفات السياسية، وبين أروقة الفنادق وممرات المخابرات الدولية والإقليمية، وعلى ابواب السفارات، بحثاً عن فتات الدعم المالي، فيما التضحيات مستمرة وكأن شيئاً لم يكن!.

هذه القضية المحورية والاساس من جملة عوامل الانتصار والتقدم يشير اليها سماحة المرجع الديني الراحل الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- في كتابه "ممارسة التغيير لانقاذ المسلمين". ويعطينا ابعاداً حضارية واسعة عندما يتحدث عن آلية تحقيق الاكتفاء الذاتي مالياً، وليس فقط التفكير في الأمر. حيث يقول: "يجب على الإنسان الممارس للتغيير أن يعرف أن تجمع القطرات تسبب تكوّن البحار، وتجمّع صغار الرمال يسبب تكوّن الصحاري، وتجمّع الخلايا الصغيرة يكوّن بدن الإنسان والحيوان والشجر إلى غير ذلك.. فعلى الإنسان الذي يريد ممارسة التغيير أن يجمع القطرات من أجل هدم الأبنية السابقة وتشييد الأبنية الجديدة مهما طال الزمن ومهما احتاج إلى ضم قطرة إلى قطرة، وذرة إلى ذرة، وعمل إلى عمل وجهاد إلى جهاد وذلك بفارغ الصبر، وجميل الانتباه".

وقد ذكرنا سابقا؛ أن التغيير الكبير يحتاج الى تخطيط كبير ايضاً، الى جانب عوامل اخرى مماثلة في العمق والحجم، مثل النفس الطويل والقلب الكبير والصبر على المكاره والمنغصات في كل زمان ومكان. ولعل هذه من شيم الطامحين الكبار اصحاب الاهداف الكبيرة في الحياة، فهؤلاء بالقطع يكونوا بحاجة الى عنصر المال كأحد عناصر القوة وادوات التحرك، بيد انهم قبل ان يضعوا يدهم على المال، سواء أوراق نقدية او مسكوكات ذهبية، يفكرون بنهايات الطريق الذي يسيرون فيه، هل ينسجم مع طبيعة هذه الاموال ومصدرها، أم لا؟ .

نقل عن المرجع الديني الكبير في كربلاء المقدسة، السيد ميرزا مهدي الشيرازي – قدس سره- وهو والد السيد المرجع الشيرازي – دام ظله-، أن أموالاً طائلة وصلته من الهند، عبارة عن مسكوكات ذهبية، تحت عنوان "حقوق شرعية"، وما أن سمع المرجع الراحل بوجود شبهة في هذه الاموال، امتنع عن استلامها وردّها من حيث جاءت، رغم انه كان بحاجة ماسّة اليها في ادارة شؤون الحوزة العلمية وعديد المشاريع الخيرية والثقافية آنذاك، وكان جوابه على المستفهمين: "قبل قبولي هذه الاموال، عليّ التفكير بما أجيب عنه يوم القيامة إزاء مصدر هذه الاموال..".

لذا كانت الحوزات العلمية والمكتبات و"مدارس حفاظ القرآن الكريم" للبنين والبنات، وعديد المشاريع الخيرية والثقافية في كربلاء المقدسة في سني الخمسينيات والستينات، تغطى بنفقات تأتي وفق الاستراتيجية التي يشير اليها الامام الراحل في كتابه، وهو بحق – كما سائر مؤلفاته- يشكل ومضة من تجارب ثرية في مسيرة التغيير الشامل التي خاضها الراحل ووالده مع كوكبة من خيرة ابناء المجتمع الخيرين، والعلماء والخطباء والمثقفين.

وإذن؛ لا أموال جاهزة على شكل صكوك او ارقام حسابات كبيرة في الامر، ليطمئن المرء من النجاح في عمله، إنما الهمّة العالية والنية الصادقة التي تجعل صاحبها ينطلق بثقة واعتداد نحو الهدف. ان هذا ليس من المثالية بشيء، إنما هي الحقيقة المدعومة بالشواهد والأدلة، بيد ان تحولات الزمان جعلت من الصعب تجاهل اكداس الاوراق النقدية والاستعاضة بها بتوفير المال عن طريق آخر محفوف بالمصاعب والمخاطر.

وفي نفس كتابه – قدس سره- يروي لنا الامام الشيرازي عن رجل خيّر يُكنى بـ "أبي البركات" كان يزوّد المجاهدين بالأفراس إذا كانوا يريدون الذهاب إلى الجهاد والمرابطة فإذا رجعوا أرجعوا الفرس إليه ليزود بها آخرين وإذا لم يرجعوا أو أرادوا أن يستبدوا بالفرس فهو لهم حسب قرارهم معه.

وذات مرة طلب "أبو البركات" من أحد بياعي الأفراس أن يبيعه مائة فرس فاصطحبه البائع إلى اسطبله، وفي الطريق كان أبو البركات يمشي خلف البائع ونظر الرجل إلى خلفه، فرأى أن أبا البركات يجمع الأوساخ ويضعها في كيس معه، فتعجب الرجل من ذلك وبعد أن اشترى أبو البركات منه الأفراس قال له البائع: هل تسمح لي أن أسألك؟

قال: نعم.

قال: إني رأيتك في الطريق تنحني مرة تلو أخرى، فهل ضاع منك مال أو ضل منك شيء تنشده؟

ضحك أبو البركات وقال: كلا.. إني كنت أجمع النفايات!

قال الرجل: نعم وإني رأيت ذلك، لكني احتشمت أن أقول لك في أو ل الأمر. لكن لماذا كنت تجمع النفايات؟

قال: اعلم أيها الرجل إن أكثر ما أشتري به الأفراس التي أزوّد بها المجاهدين في سبيل الله، هو ثمن النفايات التي أجمعها من الشوارع والأزقة، فإني أجمع النفايات يومياً وأذهب بها إلى سطح داري وأميز بين محتوياتها، وبعد كل ثلاثة أشهر أو أكثر أذهب بها إلى الذين يشترونها فأحمل قطع الحديد إلى الحدادين وقطع الخشب إلى النجارين وبعر الحيوانات إلى الزارعين سماداً، وإلى الخبازين وقوداً لطبخ الخبز وقشر الرمان إلى الصباغين تثبيتاً للألوان وهكذا سائر المواد الأخرى وأجمع من ثمنها هذا المال الذي أشتري به الأفراس.

ولا ينسى الامام الشيرازي في كتابه أن يسجل استفهامه من مشاهداته عن اليهود في كربلاء المقدسة، عندما كانوا يقطنون العراق قبل تشكيل الكيان الصهيوني عام 1948، يقول: لقد "كانوا يدورون في الشوارع والأزقة ويشترون من البيوت الأمتعة البالية والنفايات مثل الزجاج المكسور، والقطن البالي، والأوراق القديمة، والألبسة الممزقة، وغيرها وكانت البيوت تجمع نفايات البيت وتبيعها لليهود بأثمان زهيدة وكنا نسأل بعض كبار السن عن ماذا يفعل بها اليهود؟ فكانوا يقولون: أنهم يبدلونها إلى أمتعة تنفع وتباع. وكثيراً ما كان أصحاب البيوت يفرحون بمجيء هؤلاء اليهود لاشتراء نفاياتهم، لأنهم إذا لم يشتروها منهم اضطروا إلى إلقائها في المزابل، بينما يشتريها اليهود منهم، فيرفعون عنهم الأوساخ ويعوضونهم بالمال".

اذا يتحدث البعض عن ثراء اليهود وقدراتهم المالية في العالم، لنعرف ان هذه إحدى مصادر الدخل لديهم، واذا كانت كربلاء المقدسة، في عقد الاربعينات وبازقتها الضيقة ومساحتها الصغيرة جداً، ميداناً لهذا النشاط الاقتصادي، لنا أن نتصور حجم الميدان الذي عمل فيه اليهود عبر العالم لصناعة الثروة وتجميع المال الذي سيطروا به على مؤسسات اعلامية كبرى في العالم، وايضاً الى حكومات وأنظمة وشركات عالمية ضخمة، وحتى على كبار الزعماء في العالم.

ان اليهود لن يكونوا المثال الوحيد لنا قطعاً، لكنهم المثال الحي والبارز في العالم. وهنالك العديد من الفرص والميادين للعمل على خلق القدرة المالية، مثل المشاريع الانتاجية والتنموية في الزراعة والصناعة والتجارة وغيرها. وهذا من شأنه ان يقوي جسور العلاقة مع اصحاب الرساميل والتجار بأن يكونوا شركاء في إنجاح هذه المهمة الحيوية.

ان وجود مشاريع استثمارية في الزراعة وتربية المواشي والدواجن والعقارات والنقل وانتاج المواد الغذائية وغيرها كثير من الحقول الانتاجية، من شأنها ان تغني المؤسسات الاسلامية غير الربحية، مثل القنوات الفضائية والمؤسسات الثقافية والخيرية، لن تكون بحاجة الى الدعم الحكومي، كما لن تكون محكومة بشروط معينة، فهي صاحبة المشروع وهي صاحبة المال الذي المغذي للمشروع. وهذا سر نجاح مشاريع التغيير والإصلاح في العالم، بينما كان الانزلاق نحو التبعية والتحلل والضياع من نصيب المشاريع المرتبطة بأجندات سياسية وايديولوجية خاصة.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 10/آيار/2014 - 9/رجب/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م