تشريع الحرية الافتراضية في البرازيل

بيدرو أبراموفاي

 

يبدو الأمر أشبه بأحداث فيلم رعب ــ حيث يتسبب خلل بسيط غير ملحوظ في المصفوفة الأساسية في إحداث فوضى عالمية. وهذه المرة، كانت الفاجعة ناجمة عن خطوة برمجية خاطئة بسيطة، ولكنها مشؤومة، أسفرت فجأة عن جعل المعلومات الأكثر حساسية عن ملايين المستهلكين عُرضة لقراصنة الكمبيوتر. وصَرَخَت عناوين الأخبار الرئيسية بشأن مخاطر على شبكة الإنترنت لا يمكننا أن نفهمها إلا بالكاد، فنبهت أسراباً من القراصنة الرقميين إلى هذا المحصول الوافر من الفرص الإجرامية. وسارعت الشركات في مختلف أنحاء العالم إلى تأمين سلامتها على الإنترنت.

بيد أن قصة ما يسمى بخلل "هارت بليد" حقيقية تماما. وهي تشير إلى حقيقة صارخة: ففي زمين قصير إلى حد مذهل أصبحنا معتمدين اعتماداً كلياً على شبكة الإنترنت، التي تمثل حدوداً تكنولوجية بدأنا نفهمها للتو، ناهيك عن رسم خريطة لها وتنظيمها. والواقع أن المناقشات المهمة ــ التي تتناول قضايا مثل الحرية في مقابل الأمن، والخصوصية في مقابل القرصنة، وتأثير الفضاء الإلكتروني على الديمقراطية ــ لا تزال بعيدة عن الحل.

ومع هذا فإن المخاوف بشأن خلل هارت بليد وغير ذلك من التهديدات المماثلة، والضجة المحيطة بتكتيكات المراقبة الأميركية العدوانية التي كشف عنها عميل المخابرات السابق إدوارد سنودن، دفعت العديد من البلدان بالفعل إلى اتخاذ وضعيات دفاعية. وفي أماكن عديدة، أُحبِطَت الجهود الرامية لحماية حرية الإنترنت.

ولكن كما أثبتت البرازيل (مسقط رأسي)، فهناك مسار مختلف ممكن. فقد أقر مجلس النواب في البرازيل "ميثاق حقوق" أصيل للإنترنت، والذي تم التصديق عليه بالإجماع في مجلس الشيوخ وتوقيعه من قِبَل الرئيسة ديلما روسوف ليصبح قانوناً سارياً في الأسبوع الماضي ــ وكان هذا سبباً لابتهاج كثيرين من دعاة المجتمع المدني.

ويسعى هذا التشريع، الذي وصفه كثيرون بدستور الإنترنت، إلى حماية حرية التعبير على شبكة الإنترنت والحد من قدرة الحكومة على جمع واستخدام البيانات الذاتية لمستخدمي الإنترنت. ويضمن هذا القانون "الحياد الصافي" (بمعنى أن مقدمي خدمات الإنترنت لابد أن يتعاملوا مع كل المعلومات والمستخدمين على قدم المساواة)، كما يُخضِع الشركات العالمية مثل جوجل وفيسبوك للقانون البرازيلي وسوابقه في الحالات التي تشمل مواطنين برازيليين.

كان إلهام احتضان البرازيل لحرية الإنترنت نابعاً جزئياً من حملة الرئيس الأميركي باراك أوباما الانتخابية التاريخية في عام 2008. فمن خلال الاستفادة من الملايين من التبرعات الصغيرة عبر مواقع شبكات التواصل الاجتماعي، أحدث أوباما ثورة في عالم تمويل الانتخابات وبدا وكأنه يفتح آفاقاً جديدة للديمقراطية والمشاركة المدنية.

ولكن هذا لم يقنع الجميع. ذلك أن موجة من التشريعات ــ التي جرمت أنماطاً عديدة من استخدام الإنترنت، مثل تبادل الموسيقى، وسمحت للحكومة بفرض قدر أعظم من المراقبة ــ بدت وكأنها تعيد المد الليبرالي إلى الوراء. وفي البرازيل أيضا، اكتسبت السلطات قدراً أعظم من السيطرة على الإنترنت، مع انتقال البلاد إلى صدارة الحرب الدولية ضد جرائم الإنترنت.

ثم بدأ الوضع يتغير في عام 2009، بعد مشاركة الرئيس البرازيلي آنذاك لويس إيناسيو لولا دا سيلفا في إحدى مناسبات حرية الإنترنت، وتعهد بعد ذلك بمنع أي تشريع يقيد الحرية على الإنترنت. كما تعد بتقديم مشروع القانون الذي أسفر عن القانون الذي تم اعتماده مؤخرا.

ومن المثير للاهتمام أن صياغة ميثاق حقوق الإنترنت لم تتم من خلال العملية البيروقراطية المعتادة. بل كانت العملية مفتوحة لعامة الناس، حيث سُمِح للمواطنين العاديين بالمشاركة من خلال مدونة تابعة للحكومة. وقد خَلَط أنصار البرمجيات الحرة بين الميثاق ومطبقي القانون وجماعات الضغط من أمثال جوجل وياهو، في مثال رائد لما يسمى "ديمقراطية ويكي".

في عام 2011، وبعد عامين من الحوار والمناقشة، أُرسِلَ مشروع قانون إلى الكونجرس. وكانت المعارضة شرسة. فقد سعت جماعات الضغط إلى تخفيف التشريع المقترح، وكانت شركات الاتصالات معارضة بشكل خاص للبنود الخاصة بصافي حيادها.

ورغم هذا نجح تحالف القوى الداعمة للميثاق ــ جماعات المجتمع المدني المدعومة بعريضة قوية موقعة من قِبَل 350 ألف شخص والتي نظمها الموسيقار البرازيلي الأسطوري ووزير الثقافة السابق جيلبرتو جيل ــ في التغلب على المصالح السياسية التقليدية. وفي هذه العملية لاح بشير نموذج جديد للتشريع.

ولكن في أماكن أخرى من العالم، تحركت التطورات في اتجاه مخالف. فقد خفت بريق أوباما الانتخابي، وتم سحق الانتفاضات المستوحاة من الإنترنت في إيران وكثير من بلدان العالم العربي بوحشية. وتستمر أحداث الكشف المتوالية عن المراقبة الحكومية، فضلاً عن المخاوف الأمنية على شاكلة خلل هارت بليد، في اختبار إيمان العالم بحرية الإنترنت.

ولكن برغم المخاوف ــ والمخاطر الكامنة في إطلاق العنان لحرية الإنترنت ــ فيتعين على العالم ألا يكف عن استكشاف الإمكانات التحويلية للحيز الإلكتروني. وينبغي لأولئك الذين يفقدون عزيمتهم أن ينظروا إلى الجنوب، حيث تتقدم البرازيل الطريق.

* سكرتير العدل السابق البرازيلي (2010-2011) وأستاذ في مدرسة فندجاو خيتوليو فارغاس القانون في ريو دي جانيرو، هو المدير الإقليمي لأمريكا اللاتينية لمؤسسة المجتمع المفتوح

http://www.project-syndicate.org/

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 8/آيار/2014 - 7/رجب/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م