تجيير الدين.. طفرة سياسية الى الوراء

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: يبدو واضحاً أن غياب الدين عن نظام الحكم في بعض البلاد الإسلامية واستبداله بالنظام العلماني، او تبنيه ظاهرياً وقشرياً في البعض الآخر، لم يلغ وجوده بالكامل عن الساحة، بسبب جذوره المترسخة في افراد المجتمع. فالطقوس العبادية والقيم الأخلاقية والإنسانية، وكل ما له صلة بالحالة المعنوية، يمثل الجدار الاخير الذي يتكئ عليه الناس ويستريحوا مما يلاقوه من عناء الازمات والمشاكل في ظل الانظمة السياسية القائمة. وهذا ما حدا بشريحة واسعة من الساسة لأن يفكروا في استثمار هذه الحالة العامة بما يحقق لهم مكاسب وامتيازات سياسية. فليس بوسعهم التغاضي عن تجمهر بالآلاف في مساجد او حسينيات او مناسبات دينية بالملايين، فيما تبقى حسرة عليهم تعبئة بضعة مئات او آلاف من الناس في مكان واحد إلا بتعبئة جهود كبيرة وقدرات مالية وتخطيط وبرمجة.

في الجلسات الخاصة، يدور حديث بين الساسة "الإسلاميين" على أن الاولوية اليوم للتحالفات السياسية، والحصول على المكاسب، ثم المحافظة عليها، والخروج من المعترك السياسي مع حصة مقبولة في مؤسسات الدولة، سواءً في السلطة التشريعية او السلطة التنفيذية او مرافق أخرى في الدولة. ولتحقيق كل ذلك لا بد من الالتزام بأصول وقواعد في اللعبة السياسية، وأي خطأ في الأداء، يكون بمنزلة الانفجار والخسارة الكبيرة. أما عن دور الدين في هذا المضمار، فانه – حسب هؤلاء الإسلاميين- "لا خوف عليه" فهو يُحظى بالمرونة الكافية لأن ينسجم مع كل المتغيرات والظروف، وهذا ما جرأ البعض على الاستفادة مما يعده فرصة بالنسبة له، لأن يستخدم الدين لأغراض سياسية وفي مناسبات مختلفة، لعله أبرزها؛ الحملات الانتخابية، حيث يكون السياسي بحاجة الى كل الادوات لارتقاء سلم الفوز والحصول على اكبر عدد من الاصوات. وكذلك نلاحظ ذلك خلال فترة الحكم من قبل هذا الوزير او ذاك النائب او حتى الرئيس والزعيم.

وبقراءة متأنية، نجد أن البعض من الساسة الذين يمارسون عملية توظيف المفردات والمفاهيم الدينية في نشاطهم السياسي، يدّعون أنهم من خلال ذلك ينصرون الدين والمذهب في مواجهة أطراف سياسية وإيديولوجية أخرى، فبالإمكان – حسب هذا البعض – التحرك بأدوات سياسية ضمن جهاز الدولة ومؤسساته، برداء ديني – اسلامي. بيد ان الحقيقة لا يمكن ان تختفي أمام اشعة الشمس، عندما تكشف التقلبات السياسية عمق الفاصلة بين تلكم المفاهيم والقيم وبين التطبيق على ارض الواقع.

وهنالك أمثلة كثيرة على ذلك، مرت بها بلادنا، ابرزها تطبيق الشريعة الاسلامية في مسألة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وايضاً ما يتعلق بالمؤسسة الدينية وعلماء الدين ومكانتهم ودورهم في المجتمع. ومسألة الحج وغيرها، وهذا ما جعل الشعوب في دوامة قاتلة طيلة السنوات الماضية بحيث باتت مجبرة على تقبل "اسلاماً سلطوياً" وجدت فيه تعارضاً كبيراً مع ما لديها من القيم الإنسانية والأخلاقية ومنظومة الأحكام والمفاهيم الدينية. فهي تسمع وتقرأ عن الشورى في الإسلام، بل ترى لوحة الآية الكريمة {وأمرهم شورى بينهم}، مرفوعة في أعالي صالات البرلمان في البلاد الاسلامية. ثم ترى في الوقت نفسه مظاهر الاستبداد بالرأي والممارسات الديكتاتورية من قبل الحكومة المنبثقة من العملية الديمقراطية.

وقد بذلت جهوداً حثيثة في التخطيط وصرف الاموال وشراء المواقف والذمم من اجل تطويع وتوظيف الدين لتحقيق مكاسب سياسية في هذا البلد وذاك. وربما تكون هنالك بعض النجاحات على حساب مصائر الناس وعقيدتهم، لكن بالمحصلة؛ أثبت الدين انه أصلب عوداً وأكثر تجذراً مما كان متوقعاً. وهذا ما يشير اليه سماحة المرجع الديني الراحل الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- في كتابه "النظام الإسلامي والأنظمة المعاصرة" لعوامل قوة في الدين نفسه منها:

1 - الدليل القاطع أمام التصورات الذهنية

"هنالك فرق كبير بين العقيدة المنبثقة من ردود افعال وتصورات ذهنية وحتى أوهام، وبين عقيدة قائمة على  الدليل والبرهان العقلي القاطع. فقد نُقل عن "نهرو" الزعيم الهندي المعروف عن سبب عبادته للبقرة مع انه رجل مثقف، فكان جوابه: "التقليد"، كما سُئل ياباني عن سبب إيمانه بالملك إلهاً؟، قال: هكذا أظن.. وسُئل شخص شيوعي كان يقدس "ماركس": ما أنت وماركس، فأنت مسيحي وهو يهودي؟، فقال: حقداً على أصحاب الاموال والاستعمار..!".

إذن؛ فمن يعتقد بذيول الأدلة والبراهين القائمة على التصورات الذهنية، يعود به الحال الى عهد الجاهلية التي طواها الاسلام حيث قال في الآية الكريمة: {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون}. أما عن العقيدة الحقّة فكيفي أن الرجوع الى الآيات القرآنية التي تتحدث عن نبي الله ابراهيم وكيف انه حمل راية التوحيد من خلال الدليل العقلي والملموس واكتشف ربه وخالقه وخالق كل شيء، ولعل من أروع المحاججات في هذا المجال، ما حصل مع "نمرود"، تقول الآية على لسانه: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ}.

2 - التغيير الذاتي

وهي من النقاط المحورية والأساس في العقيدة والسلوك التي أرسى دعائمها الاسلام منذ فجر الرسالة. يقول سماحة الامام الشيرازي: ".. ولما بزغ فجر الإسلام، وكان شعاره: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، أخذ الناس يهرعون إلى الالتفاف حوله، وبمجرد أن تمكن الإسلام من كسر أغلال المستغلين، أخذ الإسلام ينظم حالة الفرد، وجو العائلة، وروابط الاجتماع بعضه مع بعض، بما لا مثيل له، لا قبل الإسلام ولا بعد الإسلام، حين استبد بالمسلمين نظام الكفار، من شرقيين وغربيين.. ولقد اعتبر الإسلام في الرسول والإمام، العصمة، واعتبر في القائد والحاكم والقاضي، العدالة والنزاهة، بالإضافة إلى عدالة القانون بنفسه ووفائه بمختلف شؤون الحياة..".

وفي هذا السياق يشير سماحته الى فقرة هامة في هذا السياق، وهي زرع جهاز مراقبة داخلية في نفس الانسان تجعله يتحسس درجة النزاهة باستمرار، ولعل خير من يجسد هذه  المراقبة الذاتية أمير المؤمنين، عليه السلام، عندما قال قولته المشهورة: "لو أعطية الأقاليم السبع على أن أسلب نملة جلب شعير ما فعلت..". ويصف الامام الشيرازي هذه الخطوة بانها "خطة حكيمة" في النظام الاسلامي، بحيث يحول البشر من حال الى آخر. وهذا ما أقره واعترف به المفكرون الغربيون منهم "ويل ديورانت" صاحب "قصة الحضارة" عندما أعرب عن إعجابه بالإسلام الذي "أفلح في تحويل الوحوش الى آدميين، والهمج الى مواطنين صالحين، والصدور الفارغة الى قلوب عامرة بالأمل والشجاعة..".

 خطاب الفطرة الإنسانية.. يقول سماحة الامام الراحل – قدس سره- : "أن الشريعة، عبارة عن الانظمة التي يمكن ممارستها، ولو بدون وجود الدولة، سواء كانت أنظمة عبادات كالصلاة والصيام، أم أنظمة محرمات، كحرمة الخمر والزنا، أم أنظمة أخلاق، كحسن الصدق والأمانة، وكقبح الخيانة والرشوة، أم أنظمة اجتماعية أخرى، مثل كيفية المعاشرة مع الاهل والصديق والجار وما أشبه.."، ويضيف سماحته انه بالرغم من العواصف التي ضربت الأمة في جانبها السياسي، حيث تعرضت الدولة وكرسي الحكم والثروة لتحديات ماحقة، إلا ان الشريعة وايضاً العقيدة، بقيت في أمن من الخطر". والسبب في ذلك – يقول سماحته-: "كون الاسلام دين الفطرة في عقيدته وشريعته، فانه صعب التزحزح عن الاجتماع، وان تمكن المنحرفون من ازاحة الدولة.. فالفطرة تحكم بأن للكون صانعاً عالماً قديراً.. تبدو آثار عدله على الكون. وبأنه لا بد وان يكون له غرض من أجله يبعث من يبلغ غرضه للناس. هذا من ناحية العقيدة؛ اما من ناحية الشريعة، فمن يرجح الكذب؟، أو أكل مال الناس بالباطل؟، أو سرقة أموال الناس أو ما أشبه؟، ومن لا يستعد للخضوع أمام اله الكون بصلاة أو صيام؟، وهذه الأمور التي نسميها بالشريعة، طبيعية للانسان ومألوفة بعقله وذهنه وفطرته، وليس حملاً على الذهن أو الجوارح، وبعد ذلك فمن شاء فليفعل ومن شاء فليترك..". ثم يوضح سماحته الفارق بين الدين والدولة في نظر المجتمع، بان "الدولة عبارة عن القوة المسيطرة على الناس لأمرين: أولاً: نظم أمورهم، وعدم السماح لتعدي بعضهم على بعض، أو تعدي الخارج عليهم. ثانياً: التسيير بهم الى الأمام في مختلف شؤون حياتهم".

الحاجة الانسانية الى الشريعة والعقيدة

يؤكد سماحة الامام الشيرازي على أن "الاسلام وحده، نظر إلى الدولة نظرة صحيحة، وبيّن عناصرها وأهدافها وكيفيتها بياناً واضحاً، لو أخذ به في المجتمع الإنساني، لاستراح الجميع.."، وهذه اشارة واضحة الى العلاقة بين حاجات الانسان في الحياة وبين الرسالة التي جاء بها الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، يضيف سماحته موضحاً: " أقر الإسلام الدولة، ولكنه في نفس الوقت أخرج عناصر الفساد من الدولة بتشريعه الأنظمة والقوانين العادلة.."، ويوضح ايضاً بان "الإسلام لم يسلط الوحوش الكاسرة - على حد تعبير نيتشه- على الحكم، واشترط في رئيس الحكم ــ بعد النبي والإمام ــ العالم العادل الفاقه لأمور الدنيا والدين المتمكن من تسيير دفة الحكم بأحسن وجه. كما أن الحاكم الإسلامي لا يعمل لحساب طبقة خاصة من الناس، وانما لحساب جميع الطبقات، ومن منهاج الإسلام الذي يقوم الحاكم بتنفيذه، منع الاستغلال، والاحتكار، والربا، والغش، وما أشبه مما نشاهده في كل الحكومات اليوم. والإسلام لا يكبت كل الحريات، كما تفعل الانظمة الشيوعية، ولا يطلق كل الحريات، كالانظمة الرأسمالية، وانما يطلق الحريات الصالحة، ويمنع عن الحريات الضارة..".

هنا نتسائل..

اذا كانت العقيدة والشريعة والاحكام في الاسلام بهذه الدرجة من الشمولية والعملية، ما الذي سيجنيه الساسة اذا ما حاولوا تجيير الدين بما فيه هذه الاركان والدعائم؟ وهل لديهم ما هو أكثر شمولية وجاهزية وعملية مما جرى ذكره آنفاً..؟

نعم؛ بالامكان الابداع في التخطيط والبرمجة وتحديث المناهج بعد التحقق من المرونة الكافية في الايديولوجية بما يواكب المسيرة الحضارية للاسلام، بمعنى ان يأخذ الساسة من الاسلام لما يفيدهم في الإدارة والحكم وجميع مرافق الدولة، بعد أن عرفنا أن الشريعة والعقيدة والاحكام في الدين عبارة عن ثوابت لا تتغير نظراً الى ثوابت الحقائق الانسانية، فيما المتغيرات للتطبيقات وحسب. بينما السياسة عبارة عن متغيرات مستمرة. وإذن؛ اذا حاول البعض تركيب هذا الثابت على المتغير والمتحول ابداً، فان النتيجة، فقدان الامة والشعوب بوصلة التقدم والنجاة، فهم لن يجنوا من السياسة والدولة التي يعيشون في ظلها، كما لن ينعموا بالنظام الاسلامي المتكامل الذي بشر به النبي الاكرم، صلى الله عليه وآله.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 7/آيار/2014 - 6/رجب/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م