فن وعلم إدارة الوقت

والساعات والايام والاسابيع والاشهر والسنين

آية الله السيد مرتضى الشيرازي

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين: سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولاحول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)[1]

ويقول تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [2]).

وفي الرواية الشريفة: (لا تعادوا الايام فتعاديكم)[3].

ان محور الحديث بمناسبة الأيام القادمة (شهر رجب وشهر شعبان وشهر رمضان: وان كان الحديث يعم أشهر السنة بأكملها) سيدور حول محور الوقت والايام وعلم وفن ومهارة (ادارة الوقت).

وهو علم من العلوم بل هو من أهمها وهو يعني: كيف تديرُ وقتك بالنحو الافضل وتستثمره بالشكل الأمثل.

إن الإنسان الذي لا يعرف كيفية إدارة بيته لهو انسان فاشل في إدارة أسرته: على العكس ممن يعرف إدارة الأسرة: كما ان الذي لايعرف كيفية إدارة المحلة او العشيرة او الدولة سيكون فاشلا كذلك والعكس بالعكس.

واما من لا يعرف علم وفن إدارة وقته او علم وإدارة ايامه ولياليه، فانه سيكون فاشلا اكبر الفشل.

وسوف ننطلق في البداية من الآية الشريفة: ثم الرواية الكريمة: ثم على ضوئهما نتحدث بعض الحديث عن علم إدارة الوقت: ونربط بذلك بين البحث السابق عن الصديقة الطاهرة (عليها السلام) في ضوء الآية (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) وبين محور حديثنا الجديد:

ان المستفاد من الآية الشريفة (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ) ان الله سبحانه وتعالى عهد الى موسى بمسؤوليتين:

1- ان اخرج قومك من الظلمات الى النور: وهذه هي المسؤولية الاولى والواجب الاول.

2- وذكرهم بأيام الله تعالى، وهذا هو الواجب الثاني.

المحتملات الخمسة في معنى (ايام الله)

ولكي تتضح الصورة جيداً ويتضح معنى الاية الكريمة لابد من بيان الاحتمالات والاقوال في الواجب الثاني (وذكرهم بأيام الله تعالى) وهي خمسة:

1 – عقوبات الله في ايامه

1) ان ايام الله تعالى هي ايام عقوبات الله النازلة على الامم كايام عاد وثمود وغيرهم ممن نزل عليهم البلاء الدنيوي.. فــ(ذكِّر) ياموسى الناسَ بتلك الايام العظيمة التي عذب الله فيها عباده العاصين والمعاندين..

وعلينا – بالتبع – ان نذكر الغربيين والشرقيين والكفار والمسلمين بانكم ان أعرضتم عن مناهج الله فانه سيصيبكم ما اصاب من كان قبلكم في الزمن الغابر من انتشار الامراض والأوبئة والزلازل والحوادث غير المتوقعة وغير ذلك.

2 – نعم الله في ايامه

2) أن ايام الله هي ايام نعم الله تعالى: لان الله سبحانه طالما انعم على عبدٍ او على طائفة او امة بنِعم كثيرة هي أعظم مما يستحقون كنعمة الرزق او العلم او الرفاه او الامن او الحرية او المراقد والمساجد المقدسة او غير ذلك مما لا يمكن إحصاؤه فضلا عن استقصائه... فذكرهم بها ليعرفوا قدرها: والا فستسلب منهم ويحرمون منها.

3 – العقوبات والنعم جميعاً

3) ان ايام الله تعالى هي مجموع الأمرين السابقين أي ما في أيام الله من نِعمٍ ونِقَمٍ للناس والعاصين: فاُريد بالظرف المظروف، كسابقية.

4 – الرسول (صلى الله عليه وآله) وسائر المعصومين (عليهم السلام)

4) ان المراد بايام الله تعالى: الرسول والائمة الاطهار (صلوات الله عليهم اجمعين) [4] وسيأتي بيانه ان شاء الله تعالى.

وعلى هذا الاحتمال يكون موسى (عليه السلام) مأمورا بوظيفتين: الاولى: إخراج قومه من الظلمات الى النور. والثانية: أن حدّث قومك عن المستقبل وعن العلة الغائية للخلق وهي رسول الله محمد المصطفى (صلى الله عليه وآله) واهل بيته الاطهار (عليهم السلام).

ثم اننا ايضا مأمورون بوظيفتين وهما:

الاولى: إرشاد وهداية الناس الى كل أنواع الطاعات واجتناب المحرمات.

والثانية: أن نحدثهم عن الرسول والأئمة الاطهار(عليهم السلام) جميعاً وعن الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) خاصة وعن المستقبل والظهور المبارك: وبكلمة: فان الوظيفة ليست منحصرة بالحال الحاضر: بل ان مهمة الأنبياء كانت ووظيفتنا لازالت وعلى مر التاريخ ان نتحدث عن المستقبل ايضاً وان نعِدَّ له ونمهِّد.

5 – الايام هي هذا الكم المتصل غير القارّ

5) ان المراد هو نفس اليوم الزماني المعروف فانه بحد ذاته نعمة من نعم الله تعالى لا تُقَّدر بقدر: فكما ان المال او البنون نعمة وقد يتحولان الى نقمة كذلك اليوم والوقت، فان الساعة من الزمن قد اصرفها بالطاعة او يصرفها العاصي بالمعصية ـ لا سمح الله ـ

وبالتالي فان نفس الايام – وهي العمر - هي أعظم نعم الله تعالى علينا.

ويؤكد ذلك كلام الامام الحسين(عليه السلام) في روايةٍ لطيفة ورائعة الى ابعد الحدود:

((يا ابن آدم إنما أنت ايام كلما مضى يوم ذهب بعضك[5] !)) وفي هذا الكلام الرباني عبرة وموعظة شافية لمن ألقى السمع وهو شهيد. فعلينا ان نكرر التدبر فيه والتأمل والتفكير والتذكّر.

وعلى الإنسان ان يفكر في كل يوم مضى منه: ما الذي ادخرته في ذلك اليوم ليوم غد؟!!

هل اكرمتُ يتيما؟ هل دافعت بقلمي عن مستضعف او امة مستضعفة او عن مظلوم؟ وهل كتبت كتابا عن فضائل الأئمة من اهل البيت او مقالةً او بحثا او دراسة؟ وهل تكلمت مع شخص جامعي او بقال او عطار لأهديه سواء السبيل؟ وهل انشغلت بتهذيب نفسي اكثر فاكثر؟ وهل راقبت قوتي الغضبية او الشهوية؟

ما الذي صنعته في يوم أمس وقد انقضى بحلوه ومره: بصعوبته وحزونته او سهولته وجزالته؟ على كل منا ان يتذكر ان اليوم ايضاً سيمضي: وغدا كذلك: وهكذا هلم جرا.

لاتضاد بين المعاني الخمسة

وهنا نقول: ان هذه الاحتمالات الخمس لامانعة جمع بينها: فقد دلت عليها الروايات الشريفة اما بالمطابقة او بالتضمن اذ اشارت للجامع والكلي المنطبق عليها: وهي متعددة نشير الى بعضها:

فقد فسر الإمام الصادق(عليه السلام) الآية الشريفة (وذكرهم بأيام الله): أي بنعم الله تعالى في سائر ايامه.. وهو تفسير بالمصداق الاجلى:

كما ورد تفسيرها عن الامام الباقر (عليه السلام):" أيام الله ثلاثة: يوم يقوم القائم ويوم الكرة [6] ويوم القيامة "

وهذا ايضاً تفسير بالمصداق ولا مانعة جمع بينها جميعا:

ولذا نجد الرسول (صلى الله عليه وآله) يفسر الامر بالجامع وبمجموعة من المصاديق الاعم فيقول: " ايام الله نعماءه وبلاءه وهي مَثُلاته" [7]

فقد جمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما تناثر من مصاديق خصصتها روايات اخرى بالذكر لعناية في ذكر المصاديق أحيانا، وسوف نورد ان شاء الله رواية تفيد الاحتمال الرابع وهو كون ايام الله هي الرسول والأئمة (عليهم السلام) على انها من اعظم بل هي اعظم نِعم الله تعالى.

واما الاحتمال الخامس: فلا شك ان اليوم الزمني نعمة من نعم الله تعالى بل به قوام عمر الانسان في هذه الحياة الدنيا: فان اليوم بحد نفسه نعمة: وما فيه ايضاً نعمة من عافية ورزق وامن ومعرفة وغير ذلك.. او يكون نقمة ـ لا سامح الله ـ

وهذا التفسير الخامس هو ايضا تفسير بالمصداق، فيكون مشمولاً لبعض روايات النعم ان لم نقل بانصرافها عنه، فالملاك على الانصراف هو المرجع او اطلاقات الروايات العامة الاخرى.

فعلينا ان نتذكر دائما ان الوقت – هذا الشريط الممتد المتحرك – سيمضي: ولكن كيف يمضي؟ وما الذي سنخرج به منه؟ فرجل الدين الذي هو الان مثلاً طالب للعلم والمعرفة هل سيكون مستقبلا المقدس الاردبيلي في علمه وتقواه؟ ام هل سيكون الشيخ الانصاري؟ او سيصبح ذلك الانسان الاخر الذي لا همَّ له الا جمع المال والحشم والخدم والعلاقات السياسية والاجتماعية المبتنية على أساس المصالح الدنيوية وحب الشهرة والظهور؟

وكذلك الطالب او الاستاذ الجامعي او التاجر او الطالب في المدرسة او غيرهم من أصناف الناس فان ماسبق ينطبق على كل ساعٍ في هذه الحياة الدنيا نحو أي هدفٍ ينشده.

لا تعادوا الايام فتعاديكم

وتتضح الصورة اكثر فاكثر بالتدبر فيما ورد في الرواية[8]: (لا تعادوا الايام فتعاديكم) والرواية هي الاخرى فيها احتمالات عديدة:

1) الأيام هم الرسول والأئمة (عليهم السلام) وفي ذلك رواية صريحة ستأتي بعد قليل بإذن الله تعالى.

وعند ضمّ هذه الرواية الصريحة الى الآية الشريفة (وذكرهم بأيام الله) ينتج ذلك التفسير الذي ذكرناه في الاحتمال الرابع... فيكون المعنى: وذكرهم برسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين... وصولا الى الامام المنتظر (صلوات الله عليهم اجمعين).

فقد ورد عن الإمام الهادي (عليه السلام):".... الأيام نحن ما قامت السماوات والأرض، فالسبت اسم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والأحد أمير المؤمنين(عليه السلام)، والإثنين الحسن والحسين (عليهما السلام)،

والثلاثاء علي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد. والأربعاء موسى بن جعفر، وعلي بن موسى، ومحمد بن علي، وأنا، والخميس ابني الحسن، والجمعة

ابن ابني، إليه تجتمع عصابة الحق، وهو الذي يملأها قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما، فهذا معنى الأيام، فلا تعادوهم في الدنيا فيعادوكم في الآخرة " ثم قال: " ودع واخرج فلا آمن عليك....." [9]

فلا تعادوا الأيام تعني لا تعادوا محمداً المصطفى او علياً المرتضى او سائر المعصومين فيعادوكم لان كلّا منهم متصل بحبل الله تعالى فمن يعاديه يهلك ويخسر الدنيا والآخرة.

2) ان المراد بالأيام في الرواية هو هذه الايام الزمنية المتعارفة كيوم الجمعة والسبت وغيرهما[10].

وهذا بالضبط هو المدخل الى مبحثنا الجديد الذي أشرنا اليه في بداية البحث وهو علم وفن إدارة الوقت فنقول:

ان معادات الأيام الزمنية لها مراتب:

1 – معاداة الايام والاوقات بالاهمال

المرتبة الأولى: الإهمال، فإذا اراد أحد أن يصبح عدوا لوقته او ليومه فكيف يمكنه ان يكون كذلك؟

الجواب: بأن يهمله !

ويظهر ذلك اكثر بملاحظة نظائره فانه إذا كان شخص عدوا لشخص اخر، ففي المرتبة الأولى فانه سوف يهمله، فلو دخل المجلس فانه سوف لا يدير له بالاً مثلاً ويعتبر وجوده كالعدم، كذلك من يعادي وقته فانه هو من يهمل استثماره كأن يقضي ساعات من وقته الثمين على الأنترنيت بدون منهجية وبدون هدف فيضيع وقته بذلك، وكذلك الجالس خلف التلفاز لمشاهدة برامج غير ضرورية فيضيع وقته بذلك، فانه عدو لوقته. وكذلك من يجلس جلسات البطّالين ـ اعاذنا الله وإياكم منها ـ وهناك الكثير من الناس من يحب هذه الجلسات، ولنفرض أن لا غيبة فيها ولا تهمة – ومع الأسف الشديد فان الكثير من هذه الجلسات فيها الغيبة والتهمة، ولكن حتى لو فرض خلوه منها ومن أي محرم آخر فهل مُنِحَ الإنسان اليوم والوقت كي يضيعه هكذا؟ ان مثله كمثل عامل اشتغل لشهر فأعطي ألف دولار فذهب بها وقذفها في البحر، أو اهملها بأن جعلها في زاوية النسيان مع انه وأهله محتاج أشد الحاجة اليها لملبس أو مأكل أو غير ذلك.

هذا مع ان المال قد لا يفنى بالإهمال ويبقى ذخيرة، ولكن الوقت يفنى ولا يعود.

اذن: [لا تعادوا الأيام فتعاديكم]، فإذا ضاع الوقت فانه سيكون وبالاً على الإنسان؛ لأنه سيحاسب به، لانه نعمة: كان ينبغي أن تصرف في الطاعة، في الواجبات الكفائية، والآن هذه الواجبات الكفائية أضحت واجبات عينية إذ لم يقم بها من فيه الكفاية.

ففي مجال التبليغ الاسلامي مثلاً: كم رجل دين لدينا الآن يذهب ليبلغ الاسلام ورسالات الاسلام الى ارجاء العالم؟ نقول: لايوجد حتى 1% من الحاجة الفعلية.

وفي مجال الطب او غيره: كم طبيبا أو مهندسا أو محاميا أو مزارعا أو صحفيا متدينا التزم في دائرة محيطه على الاقل بأن يهذبه ويشذبه وبأن يربي ثلّة من الناس الطيبين؟ وكم منهم التزم برعاية الأيتام والفقراء؟ وكم منهم التزم بتأسيس او دعم حسينيات أو مساجد أو مكتبات أو فضائيات أو غير ذلك؟

ان كل يوم هو نعمة، فإن أهملته فكأنك جعلته كالعدو لك، هذه مرتبة أولى من مراتب العداوة.

تفسير الشريف الرضي لـ(لا تعادوا الايام).

وهنا نذكر كلام الشريف الرضي، في كتاب (المجازات النبوية) – ولعله في هذا الكتاب لم يطّلع على هذه الرواية الأولى التي نقلناها والتي تفسر الأيام بقوله (عليه السلام): نحن الأيام. لذا عدل للمجاز.

قال: [ لا تعادوا الأيام فتعاديكم: لاتخصوا بعض الأيام بالكراهية له والتطير به ]، فان الإنسان الذي يفكر أن هذا اليوم هو يوم شر فانه يلقّن نفسه بذلك ويوحي إليها بأمواج من السلبية وبذلك قد يتحول يومه بالفعل إلى يوم شر، بمعنى انه يخاف ويجبن عن عمل الصالحات لو عرضت عليه بادعاء ان هذا اليوم شؤم وشرّ، فقد حوّله بإرادته الى شر.

وكان من عادات العرب القدماء انهم اذا ارادوا سفرا: فان رأوا مقصا مفتوحا وبقربه تمرة او اكثر: فسروا ذلك بـ (لا تَمُـــرَّ) فلا يسافرون تشائما وتطيرا !!

كذلك نجد ان الغربيين يتشائمون من الرقم 13، حتى انهم لايرقمون الطابق ذي الرقم 13 في العمارة برقمه: بل يكتبون عليه رقم 14 وهكذا الغرفة في الكثير من فنادقهم اذ يقفز رقم الغرفة من 12 الى 14.. وذلك من سخافة العقل البشري.

بل الواجب على الانسان أن يتوكل على الله تعالى، لأن الأمر كله لله، وان يقدم على الصالحات دون تردد او تطير او تشاؤم، إلا في الإطار الذي حدده الله تعالى [من تزوج والقمر في العقرب، لم ير الحسنى] لكن ما عدى ذلك ونظائره ليس لنا ان نتقبله.

يقول الشريف الرضي: [فتكونون كأنكم عاديتم ذلك اليوم باستشعاركم وصول الضرر إليكم فيه ويكون ذلك اليوم كأنه عاداكم باتفاق المضرة عليكم فيه، وخرج القول مخرج المجاز والاتساع ومناديح الكلام [11] ].

ولكن الظاهر هو ان [لاتعادوا الأيام] معناها أعم، وهذا الذي ذكره من مصاديق معاداة الأيام، وهو أن تتشائم باليوم.

والمصداق الآخر: هو إهمال اليوم، أي أن يهمل الإنسان يومه بدل أن يستثمره أفضل استثمار، ويظهر حال الانسان بالقياس الى يومه بحال التاجر بالقياس الى رأسماله فان بعض التجار قد يكون لديه مليون دينار مثلاً يتاجر بها ويربح في رأس السنة مليونا أخرى فهو متوسط الحال، وقد يربح بها مائة ألف فهو خاسر، ولكن التاجر الذي يربح عشرة ملايين دينار بانتهاز الفرص المميزة: فهو الرابح الافضل والمستثمر الاكمل.

اليوم بالنسبة الى الانسان كذلك: فعلى كل منا في كل يوم أن يحاسب نفسه: هل عادى يومه أمس بأن أضاع منه ولو دقيقتين في الثرثرة أو كلام البطّالين او غير ذلك؟ (ودع عنك الحرام)، ولكن هل ضيع وقته في نوم زائد؟ او كلام زائد أو قراءة سفاسف من كتب تسلية او قصص خيالية؟ بدل ان يقرا القران الكريم او روايات أهل البيت عليهم الصلاة وأزكى السلام، وذلك ان وقت المؤمن أعز من أن يقضيه في الرواية التخيلية أو البوليسية او مشاهدة سيناريو او فلم أو غير ذلك.

2 – معاداة الايام باستثمارها في الباطل

المرتبة الثانية: وهي الأسوء، وهي ما أشارت إليه الآية الشريفة: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ)[12]، فان الإنسان قد يتخذ وقته ذريعة للنار – لا سمح الله- فقد يشغل هذا الوقت بالتخطيط لينتصر بالباطل على عدوه المتوهم، او لينتصر على منافسه، بالباطل، او ليدحض حجته وهو يعلم بأنه على حق، لكن لأنه مثلا من عشيرة وذاك من عشيرة أخرى أو هو من تيّار وذاك من تيّار آخر، أو ما أشبه ذلك.

وحاصل المعنى: لا تحول هذه الأيام من كونها نعمة إلهية إلى نقمة، فتعاديكم وتشهد عليكم يوم القيامة.

يقول اليوم: انا يوم جديد وغدا عليك شهيد، فقل فيّ خيرا واعمل فيّ خيراً.

إذن معاداة الأيام امر خطير جداً وفي مقابل ذلك فان مصادقة الأيام واستثمارها بالطريقة الصحيحة مسؤولية لكل مؤمن بل ولكل إنسان حكيم وإن لم يكن مؤمنا.

وهنا سنستعرض بعض اشهر مصاديق معاداة الأيام والاوقات:

أ – الفوضوية في التعامل مع الوقت

منها: الفوضوية في إدارة الوقت فان بعض الناس فوضويون في إدارة وقتهم، فقد يكون له موعد مثلاً في الساعة الثامنة لكنه يأتي في الثامنة و3 دقائق، أو قد يكون موعده مما ينبغي أن ينهيه في التاسعة، لكنه ينهيه قبل التاسعة أو بعد التاسعة بدون مبرر، نعم إذا كان مضطراً لعامل خارجي فذلك كلام آخر، إنما الكلام في الأصل.

كما نلاحظ جميعاً ان بعض المكاتب فوضوية، وكذلك بعض دوائر الدولة او حتى المنازل والبيوت: فتشاهد كل شيء فيها مبعثراً..

ان وقت الإنسان احيانا يكون هكذا مشتتاً فوضوياً، ومبعثراً، وهذا نوع من معادات الوقت.

ان الفوضوية في إدارة الوقت مسالة سلبية خطيرة وتعد منقصة كبيرة: ونحن كرجال دين، بل كل متدين عليه ان يكون أكثر الناس حرصا على ثواني وقته، فضلا عن الدقائق والساعات: وهذا لايتم إلا بتنظيم الأوقات والالتزام بها، فصلاة الصبح مثلاً عليه ان يصليها أول وقتها. فان الذي يصلي صلاة الصبح بعد 20 دقيقة او نصف ساعة يكون قد ضيع حظه، لأن (الصلاة في أول الوقت جزور وفي آخره عصفور). وكذلك باقي الصلوات.

ان المؤمن الصالح منظم: ويعرف قيمة الوقت: ويؤدي كل شيء في وقته. وفي مجاله الصحيح.

ب – سوء توزيع المهام على الاوقات

ومنها: سوء توزيع المهام على الأوقات. حيث ان كل وقت وزمن يقتضي عملاً يتناسب معه ويتناسق. وان بعض الناس لايعرف هذه المعادلة أو يعرفها فيهملها.

والمعادلة هي ان كل دور وعمل ومسؤولية لها وقت معين: فمتى كان الإنسان في قمّة الانتباه فعليه ان يخصص ذلك الوقت للدراسة او المطالعة الجادة. اما ان يعكس الامر بأن ينشغل بجلسة سمر وثرثرة او حتى عمل سندويتشي مع انه في حالة ذهنية مهيأة للدراسة والمطالعة فان ذلك سوء تدبير في إدارة الوقت.

كل شيء له وقته: فان وقت العبادة ليس مثلاً بعد التخمة. فمن الخطأ ان يملأ الانسان معدته بالطعام ويتخم ثم يذهب إلى المسجد الحرم، خاصة الاكلات او الحلويات التي تأتِي من الغرب او من لا يطمئن اليه فانها وان لم تحرم الا ان لها اثراً وضيعاً.

في حين ان العبادة في وقت السحر كثيرا ما تقرب الإنسان إلى الله اكثر من بعض الأوقات الأخرى، وكذلك العبادة والذكر ما بين الطلوعين فانه وقت العروج إلى الله ووقت القرب منه ومن تعلم معارف أهل البيت (عليهم السلام).

ان ذلك الذي ينام بين الطلوعين يعادى وقته، وكذلك الذي يأكل فيتعبد، بدل أن يعبد فيأكل بعد العبادة.

والحاصل: ان حسن توزيع المهام هو علم في حد ذاته كما هو مسؤولية، وهو امر يحتاج إلى دقة عالية في التنظيم والترتيب.

وكتجربة عملية: راقبوا ساعات أوقاتكم ساعةً ساعةً فستجدون ان الساعة الفلانية تختلف عن الساعة الاخرى: في الاقبال على العبادة او المقدرة الذهنية على طلب العلم او الحفظ او في الانطلاق في الكتابة او انشداد النفس الى التأمل او غير ذلك.

فمثلا: اذا اراد الشخص ان يحفظ نصاً فان أفضل وقت هو بين الطلوعين، اما العصر فالإنسان مرهق والذاكرة لا تستجيب. ومن المكروه الإرشادي حسب المشهور أن يطالع الإنسان قبل المغرب بحوالي نصف ساعة، فانه مكروه طبي، حيث انه يضعف العين والاعصاب. فينبغي ان نتجنب المطالعة فيه، والبديل الافضل للإنسان هو ان يفكر أو يصلي او يرشد الناس في ذلك الوقت.

ان توزيع المهام مسألة هامة، وبعضها نعرفها بالفطرة لكن البعض الآخر منها علينا أن نستخرجه من الآيات والروايات او من التجارب والتأمل والتفكير والتدبر، وهذا هو علم في حد ذاته، علم وتجربة وفهم.

ج – عدم التوازن في المهام

ومنها[13]: عدم التوازن بين المهام، وهو غير سوء توزيع الأوقات السالف. حيث ان هناك مهاماً متعددة كل منا عليه أن ينشغل بها، لكن كثيرا ما نجد الانسان في زحمة الحياة ينسى مهمة ما.

المهمات والمسؤوليات الاربع:

ونوجز اعمدة المهمات الاساسية في عناوين أربعة:

المهمة الأولى: العلم النافع.

المهمة الثانية: العمل الصالح.

المهمة الثالثة: الورع والتقوى والسمو الروحي.

المهمة الرابعة: الأخلاق الفاضلة والتكامل الاخلاقي.

وهذه الامور الاربعة لابد ان تسير في خطوط اربعة متوازية:

فمثلاً: اليوم تطورنا علمياً: لكن ما هو حظنا من العمل الصالح؟ فاذا كنت ايضاً قد تطورت وقدمت الافضل فهو حسن، لكن يجب ان نسأل: ماهو نصيبنا هذا اليوم من التكامل الاخلاقي؟ لابد أن أفكر وان يفكر كل منا: البارحة مثلاً كانت سيطرتي على قوتي الغضبية فرضا 60%، فهل أصبحت اليوم 61%؟ تواضعي كان كذا، فهل اليوم أصبحت أكثر تواضعاً؟

والحاصل: ان على الإنسان يومياً أن يراقب هذه المهام الأربعة.

العلم النافع: كم تزودت هذا اليوم من العلم النافع؟ قد يكون الإنسان بقالاً، أو مزارعاً او طبيباً او محامياً او مهندساً، لا بأس، لكن ليقرأ رواية واحدة في اليوم على الاقل.

اننا إذا اعطينا هذا التوجيه لعامة الناس وهم مئات الملايين أتعلمون ما الذي سيحدث؟ تصوروا: كل شخص طبيباً كان أو مهندساً، سياسياً كان او تاجراً، يحفظ اية او رواية واحدة كل يوم؟

كالرواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام):

"البخل عار والجبن منقصة والفقر يخرس الفطن عن حجته والمقل غريب في بلدته".

أو الرواية الاخرى "أعجب لهذا الإنسان ينظر بشحم ويسمع بعظم ويتنفس من خرم"[14].

لوان مئات الملايين يوميا حفظوا آية واحدة، أو رواية واحدة، أو مسألة شرعية واحدة: فسترون اي تحول سيحدث في العالم. لكن المشكلة اننا غافلون عن اهمية تراكم القطرات والذرات.

العلم النافع: يومياً ليقرأ كل منا رواية واحدة من كتاب تحف العقول، وسترون كم يحدث ذلك فيكم من التغير. مع ان كثيراً منكم ولله الحمد تقرأون الروايات ولكن المطلوب المزيد ثم المزيد: فليدع كل انسان حيزاً للعلم النافع ايضاً والمقصود به خصوص علم الرسول(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام)، واما تلك العلوم الأخرى فلها فائدتها كما لا يخفى، لكن كلامنا في العلم النافع لبناء الانسان ولاخرته ايضاً.

العمل الصالح: أيضا كذلك. التقوى من الله: كذلك ايضاً، فان من البديهي صحيح ان رقابة الله على الإنسان موجودة دائماً: لكن كم يستشعرها كل واحد منا ويحس بها؟

فلنجعل هذه المهام الأربعة في كل يوم نصب اعيننا، هل سرنا في الخطوط ألاربعة المتوازية في وقت واحد أم لا؟ إذا كنت كذلك فقد استثمرت الوقت حقاً وكان اليوم صديقي وحليفي ومعيني ونصيري وجسري إلى الجنة وإلا لكان الإنسان – لاسمح الله- معاديا للأيام.

والغريب – والحديث طويل والوقت قصير – أننا عندما نراجع الروايات والادعية الشريفة، نرى كم هي دقيقة في توزيع هذه المهام: وإلفاتنا إليها جميعاً او اشتاتاً باستمرار وأن كان بعبارات اخرى.

ومنها مثلا ادعية الأيام، واوصي نفسي والاخوة الكرام بأن نلتزم بقراءة أدعية الأيام والتدبر فيها لأنها كلها توجيه كلها حكمة: اذ تعلمني كيف أكون صديقا لوقتي وكيف يكون حليفا ونصيرا لي ومما يشد بازري في الآخرة، لا أن يكون عدوا لي وشاهداً علي.

وهذا دعاء يوم السبت للإمام السجاد (عليه السلام):

بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله كلمة المعتصمين، ومقالة المتحرزين، وأعوذ بالله من جور الجائرين وكيد الحاسدين وبغي الطاغين، وأحمده فوق حمد الحامدين.

اللهم انت الواحد بلا شريك والملك بلا تمليك، لا تضاد في حكمك[15] ولاتنازع في ملكك، اسألك أن تصلي على محمد عبدك ورسولك وأن توزعني من شكر نعماك[16] (نعمائك) ما يبلغ (تبلغ) بي غاية رضاك، وأن تعينني على طاعتك[17] ولزوم عبادتك[18]، واستحقاق مثوبتك بلطف عنايتك وترحمني بصدي عن معاصيك[19]، ما أحييتني وتوفقني لما ينفعني ما أبقيتني[20] وأن تشرح بكتابك صدري[21] وتحط بتلاوته وزري وتمنحني السلامة في ديني ونفسي[22] ولا توحش بي اهل انسي وتمم إحسانك فيما بقي من عمري كما أحسنت فيما مضى منه يا ارحم الراحمين.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يربحون أيام حياتهم ويجندون أيامهم وأسابيعهم وشهورهم، بل ساعاتهم وثواني عمرهم بأكملها، فيما يرضي الرب سبحانه وتعالى وفي خدمة أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وفيما يوجب لنا الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم

http://m-alshirazi.com

http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/mortadashirazi.htm

..............................................

[1] - سورة الروم: اية 5-4

[2] - سورة ابراهيم: اية 5

[3] - بحار الانوار: ج24: ص239

- [4] وهو ما نضيفه الى الاحتمالات السابقة ولم نجد في استقراء ناقص من ذكره

[5] - إرشاد القلوب: ج1: ص40

- [6] وهو يوم يكرُّ مولى الموحدين وامام المتقين علي بن ابي طالب (عليه صلوات المصلين) مع رسول الله (صلى الله عليه واله) على إبليس وجنوده فيبيدونهم باجمعهم في روايات مفصلة

- [7] أي: عقوباته.

[8] - وهي مذكورة في اهم مصادرنا كالخصال ومعاني الاخبار والبحار وغيره.

[9] - إعلام الورى للطبرسي ج 2 ص 245، كمال الدين: 382 / 9، وكذا في: الخصال: 394 / 102، كفاية الأثر: 289.

[10] - وسنذكر بعد قليل تفسيرين منشعبين من هذا

[11] - مناديح جمع مندوحة أي السعة.. ولعله قصد معاريض الكلام فسبق القلم وان صحت المناديح ايضاً.

[12] - سورة ابراهيم: اية 28

[13] - (من مفردات معادات الوقت والأيام)

[14] - وهو مع ذلك يتكبر؟ او المعنى التعجب لمدى عظمة الخالق جل اسمه اذ خلق ما ينظر بشحم... الخ.

[15] - التكويني والتشريعي

[16] - وشكر النعمة عمل صالح

[17] - وهي عمل صالح ايضاً

[18] - والعبادة علم وعمل و تقوى واخلاق

[19] - وهي التقوى بل من المعاصي ترك العمل الصالح الواجب كهداية الناس مثلاً.

[20] - (العمل الصالح)

[21] - (العلم النافع)

[22] - والسلامة تشمل السلامة من الرذائل الخلقية كالحسد والكبر والعجب و الرياء... الخ.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 6/آيار/2014 - 5/رجب/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م