في التغيير الذاتي: بالأسباب الطبيعية

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: عندما تشتدّ الأزمات، وتزداد العقبات في الطريق، من الطبيعي ان يتطلع الانسان الى مصدر القوة التي تساعده على حل هذه الازمات والمضي قدماً الى الامام، وهذا يصدق تماماً على مفهوم "الدعاء" الذي يُعد رابطاً معنوياً بين الإنسان والسماء، وبين العبد وخالقه – جلّ وعلا-، لذا نجد شريحة من المؤمنين يمتطون الليل – على الأغلب – للعروج بعديد الأذكار والأدعية المنقولة عن المعصوم، علّها تصلهم بالقدرة المطلقة فيحظون بتوفيق لتغيير ما ساء من اوضاعهم، أو تحقيق لآمالهم واهدافهم في الحياة، استناداً على النصوص الواردة في اهمية "الدعاء"، حيث تقول الآية الكريمة: {ادعوني استجب لكم}، ويقول الحديث الشريف: "الدعاء معراج المؤمن"، ويقول الحديث الآخر: "الدعاء مخ العبادة".

الى جانب هذا، ثمة حقيقة اخرى.. فاذا كان الانسان يعيش واقعه الذي يقول انه بحاجة الى تغيير أو إصلاح، بمعنى انه يعيش حالة مادية ملموسة، بينما الدعاء حالة معنوية غير معروفة النتائج، فهي لا تخضع لحسابات معينة تكشف غطاء الغيب لمعرفة النتيجة المرجوة، ألا وهي الاستجابة.

الى ذلك يشير سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- في كتابه "ممارسة التغيير" ويدعو الجميع الى ساحة العمل والمثابرة والسعي لتحقيق الآمال والطموحات في الحياة من خلال "الدعاء"، لكن بشرط أن تكون هذه الممارسة العبادية في موارد لا تتحكم فيها ارادة الانسان بشكل كامل، مثل التوفيق لطلب العلم وطلب السلامة والأمان ودوام الصحة وقضاء الدين وغيرها. بيد أن الاغلب في معادلة التغيير، هي الارادة التي منحها الله تعالى للانسان، فهو الذي سخر الطبيعية وبلغ المكتشفات العلمية الباهرة، بامكانه الوصول الى ما يريد، مع طلب العون والتسديد الإلهي. فهو الذي بامكانه تشكيل المجتمع الصغير (الاسرة) من خلال الزواج الانجاب، كما بامكانه مراجعة الاطباء المختصين لمعالجة داء يلمّ به، وحتى ما يتعلق بنظام الحكم في الدولة، بامكانه العمل على إصلاحه، قبل الشكوى منه. ولذا فان الأئمة المعصومين والاولياء الصالحين، يشفعون للمريض عند الله تعالى بشفاء مرضه، عندما تنقطع كل السبل به، ولا يبقى سوى طريق السماء والرحمة الالهية (المعجزة).

ويبين سماحته – قدس سره- هذه المعادلة من خلال مفهومي "العقال" و"التوكل"، فقد علمنا النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، أن نرى ما بأيدينا أولاً، ولا نكون مثل ذلك الاعرابي الذي ترك ناقته في الصحراء، وجاء الى النبي، ولما عاد اليها لم يجدها في مكانها، قال له، صلى الله عليه وآله: "أعقلها وتوكل" بمعنى انك مسؤول عن خطأ كان ممكناً تجنبه. أما في ساحة الجهاد والعمل للتغيير فانه، صلى الله عليه وآله، يعدّ العدّة ويستعد للحرب من حيث العدة والعدد، ثم يرفع يديه بالدعاء ويدعو ما ليس بيده من قوة قلوب المؤمنين وضعف قلوب الكافرين، وكل مسببات النصر.

الصبر على النتائج

صحيح أن شدة الازمات وظلمة الفتن تجعل الناس يستعجلون الفرج، وهذا امر طبيعي وفطري، فالانسان لا يحب ولا ينسجم مع الوضع الشاذ غير الطبيعي، بيد ان الصحيح ايضاً عدم استحصال النتائج الصحيحة والمطلوبة قبل أوانها. كما هو الحال في الزرع عندما يحني المزارع ظهره عليه منذ مرحلة البذرة، ثم الري ثم الاسمدة والحفاظ على الطقس الملائم له، ثم الحفاظ عليها من الآفات الزراعية، لحين ما تنضج الثمرة ويكون بامكان المزارع الحصاد والاستفادة منه. بينما لنفترض انه حصد الثمرة قبل اوانها، فما تكون النتيجة؟.

ان آمال كبيرة، على صعيد الفرد والمجتمع والامة، تعتلج في الصدور وتقض المضاجع، فهنالك من يطلب من الله – تعالى- الولد لينهي حالة الانقطاع التي ربما تصل لدى البعض عشر او عشرين سنة، وهنالك من يطلب الرزق ليبتعد عن شبح الفقر والحاجة، وهنالك من يسعى على قدم وساق ويبذل الغالي والنفيس لكسب درجة علمية مرموقة في مسيرته الدراسية.

ما السبب في عدم استجابة الدعاء؟.

سماحة الامام الشيرازي – قدس سره- يوضح هذه الاشكالية الذهنية لدى البعض، مؤكداً أن "عدم استجابة بعض الأدعية ليس معناه عدم استجابة الدعاء، كما أن عدم تمكن الطبيب من شفاء بعض الأمراض أو بعض المرضى، ليس معناه عدم كونه طبيباً. وكذلك الدواء.. إذا نفع مائة مرة ولم ينفع عشرين مرة، ليس معناه أنه ليس بالدواء لذلك المرض، فإن غالب ما في الكون من باب المقتضيات لا من باب العلل التامة، كما أن الدعاء كذلك من باب المقتضى لا من باب العلة التامة، فإذا لم يستجب لنا بعض أدعيتنا لم يكن معنى ذلك أن أدعيتنا كلها لا تستجاب بل معنى ذلك أن في هذه الموارد الخاصة - لعدم وجود العلة التامة، أو لوجود المانع عن تأثير العلة - لم يستجب الدعاء".

وأجدني ملزماً بذكر المثال الأبرز والاهم في هذا السياق، وهو الدعاء والطلب بتعجيل ظهور الامام الحجة المنتظر، عجل الله فرجه، ورغم الدعوات والاعمال العبادية، والظروف العصيبة التي تمر بها شعوبنا، إلا ان هذا الدعاء ما يزال قيد الاستجابة. وهذا يعزز القول، بان الخطوة الاساس بعد الدعاء والطلب، هو العمل والمزيد من المثابرة والتضحية، فهذا من شأنه ان يغير الاوضاع التي نرجو ان تتغير بظهور الامام – عجل الله فرجه-. فالمأساوية في اوضاعنا، بالمجمل تعود الى اسباب داخلية وذاتية، فالأنانية والعصبية والكِبر وغيرها، هي التي أوجدت معظم المشاكل والازمات التي نتخبط بها. فما الذي قدمناه – حقاً- من اعمال ومنجزات لتعجيل ظهور الامام، عجل الله فرجه؟.

ان الآمال الكبيرة تحتاج الى نفوس كبيرة ايضاً تمكن صاحبها من العمل الجاد والصادق بلا كلل او شعور بالخيبة والفشل. هكذا فعلت الشعوب الناهضة وتمكنت من تحقيق نجاحات باهرة في الميادين كافة، فاذا كان النجاح في بعض البلاد على الصعيد الاقتصادي، حيث تطور الصناعة والزراعة والانتاج بالاستفادة من التقنيات الحديثة، فان من شأن بلادنا النهوض اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً ايضاً لوجود ارضية التقدم والتطور، من قدرات طبيعية وبشرية. تبقى الارادة والهمّة وبعد النظر لتحقيق تلك الآمال والاهداف.

الاسباب الطبيعية اولا

مما يقيد الكثير عن الانطلاق في مسيرة العمل والانتاج هو الاعتماد الكلي على الامداد الغيبي او المعجزة، وذلك لاختصار الطريق واختزال الوقت، بينما الاسلام يؤكد دائماً على الاسباب الطبيعية والسنن الثابتة في الحياة على انها العامل الاول في تحقيق اهداف وآمال الانسان، حتى وإن كلف ذلك زمناً طويلاً.

سماحة الامام الراحل – قدس سره- يذكرنا بخير من قدم هذا الدرس، وهم الانبياء والأئمة المعصومون، الذين كانت لهم المنازل الرفيعة عند الله – تعالى- بل كانوا يملكون العلم بالمغيبات، قال سبحانه: {فلا يُظهر على غيبه أحداً، إلا من ارتضى من رسول}. كما قدموا للناس معاجزهم الباهرة بإحياء الموتى، وإماتة الأحياء، وشق البحر نصفين وغيرها كثير. لكن متى حصل هذا..؟ انه في موارد خاصة يكون فيها الرسول المنزل او الامام والوصي في مرحلة الفصل بين الحق والباطل . وإلا فان نبي الله موسى وايضاً عيسى وسائر الانبياء، عليهم السلام، عاشوا حياة صعبة وقاسية، فكانوا يقتاتون من نبات الأرض، كذلك الحال بالنسبة لنبينا الأكرم، صلى الله عليه وآله، عندما تعرض لأقسى الضغوطات في مكة على يد كفار قريش، إلا انه تعامل معهم وواجههم كأي واحد آخر من اصحابه، فكانت الدماء تسيل من بدنه عندما يتعرض للرشق بالحجارة، حتى قال في حديثه الشهير: "ما أوذي نبي مثل ما أوذيت". وعلى الطريق مضى الأئمة المعصومين والاولياء الصالحين من اهل البيت، عليهم السلام، والتابعين لهم، فقد تحملوا شتى صنوف العذاب والأذى، ولم يفكروا سوى بالاهداف الكبيرة والسامية التي من اجلها يعملون ويضحون باموالهم وانفسهم. وهم ايضاً كان بامكانهم الاستعانة بالامداد الغيبي لما لهم من المنزلة والكرامة عند الله، ليدفع عنهم البلاء، لكن لم يفعلوا ذلك ابداً.

نعم؛ يأتي الامداد والاعجاز ضمن مقتضيات وشروط خاصة، تتعلق بنوايا الانسان وارتباطها بالمشيئة الالهية، حينئذ نرى تغير السنن والموازين، كأن يكون شخص مشرف على الموت المحقق مثل سائر المصابين مثله بداء عضال، لكنه ينهض فجأة وكأن لم يصب بشيء. وهكذا سائر الأمثلة. وهذه حالة فردية خاصة، بينما في الحالة المجتمعية نكون بحاجة الى الالتزام بالاسباب الطبيعية والسنن الثابتة في الحياة، فلا اقتصاد قوي دون شروط موضوعية في الانتاج السليم والأداء والتخطيط، ولا قانون بلا التزام واحترام من قبل الناس، وهكذا سائر المطالب المرتبطة باسبابها. وعندما تتحقق الاهداف الكبيرة وفق هذه المعادلة الثابتة، يكون الوقوف على قمة النجاح اكثر ثباتاً وديمومة لانها جاءت بعرق الجبين والجهد الجهيد، وهذا هو الوعد الإلهي للانسان؛ "وإن ليس للإنسان إلا ما سعى، وإن سعيه سوف يُرى".

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 3/آيار/2014 - 2/رجب/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م