السجون.. مؤسسات للإصلاح أم مدارس للإرهاب؟

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: ربما لم يكن احد يتوقع ان يأتي مصدر الخطر الماحق على حياة الناس، من أبعد نقطة في هيكلية مؤسسات الدولة، وهي السجن، ومن أبعد فرد عن التركيبة الاجتماعية، وهو السجين. وهذا تحديداً ما ابتليت به بلاد عديدة مثل العراق وسوريا ومصر وأفغانستان.. فالجماعات الارهابية والتكفيرية اعتمدت بالدرجة الاولى في قواها البشرية على خريجي السجون وغرف التعذيب والزنزانات الانفرادية. فهم ربما يتحدثون عن شعارات تعبوية ضد المحتل الامريكي او الغربي، او "المقاومة" وغيرها، بيد ان المكنون ينبئ عن فظاعة في المشاعر اللاانسانية المتكونة داخل السجون العربية وغير العربية. فهو ينضم الى الجماعات الارهابية مستميتاً لمحاربة "الغزاة الاجانب"، بعد ان عبئته السياط اللاهبة في السجون، ومختلف اساليب التعذيب الوحشي، ربما لأسباب تافهة.

ولعل المثال الابرز لهكذا خريجين هو "ابو مصعب الزرقاوي"، المواطن الاردني الذي اعتقلته المخابرات الاردنية في تسعينات القرن الماضي بعد عودته من افغانستان وتعرض على يديها لأقسى انواع التعذيب الجسدي والنفسي، كذلك كان حال بعض عناصر طالبان في باكستان او بعض اعضاء الجماعات المتطرفة في مصر وتونس والسعودية وغيرها.

السؤال الحائر هنا: هل هذا كل ما يمكن ان تقدمه السجون للمجتمع؟

في بلادنا حالياً، حيث الفرد العادي في المجتمع، يصعب عليه ايجاد الاجواء المناسبة للنمو والتطور والعمل، إلا بشقّ الأنفس، حتى التعليم الذي يفترض ان يكون مجانياً ومتاحاً من قبل الدولة، لاسيما في الدول الغنية، نلاحظ ان الطلبة، يكادون ان يتحولوا الى محكومين بـ "الاعمال الشاقّة" من اجل الوصول الى مبتغاهم من المستوى العلمي ومن ثم فرصة العمل. فما بالنا بالفرد غير العادي الذي لفظه المجتمع بسبب جناية او مخالفة معينة ارتكبها.

بينما نلاحظ في بعض البلاد هنالك استيعاب لهذه الشريحة من المجتمع، والعمل الجادّ للحؤول دون تطور الوضع السلبي للسجين الى تكريس الحالة في النفس بما يجعل صاحبها عنصراً خطيراً في المجتمع عندما يغادر السجن يوماً ما، وهو ما يسمى بـ "التأهيل"، حيث تتاح الفرص داخل المعتقل لممارسة مهنته ومهاراته، او حتى التعلّم على اعمال معينة بدوافع ذاتية.

ويمكن الاشارة هنا تجربة امريكية في سجن "جيسوب" على بعد حوالي (42 كيلومترا) من العاصمة الأميركية واشنطن، حيث نجح المسؤولون هناك في تأهيل (1800) سجين، بعد ان كان السجن معروفاً في ولاية ميرلاند، بأعمال العنف والشغب أدى الى إغلاقه مؤقتاً عام 2007 بعد مقتل أحد الضباط على يد سجين.

وبعد إعادة افتتاح السجن الذي يعود تاريخه لأكثر من قرن من الزمان (أسس عام 1879)، تحول بفضل برامج "مشروع ميرلاند الإصلاحي"، ليصبح واحدا من بين أفضل عشرة برامج إصلاحية للسجون في الولايات المتحدة إذ يحقق عائدات تقدر بحوالي 60 مليون دولار سنويا، وهو أيضا يُعد السادس من حيث عدد النزلاء الذين تم استيعابهم في وظائف.

بالرغم من أن نزلاء هذا السجن او غيره من السجون الامريكية، ربما يكونوا من الرجال القساة والعنيفين، وحتى من محترفي الاجرام، إلا انهم في هذا السجن، اصبحوا منتجين للمواد الغذائية والالبسة وحتى انواع الاثاث المكتبي وبجودة عالية تضاهي المصانع ذائعة الصيت!.

وحسب تقرير صحفي امريكي، فان السجن لم يعد كسائر السجون بالصبغة المعروفة بالقهر والإذلال وقتل الشخصية الإنسانية، إنما هو عبارة عن مؤسسة اقتصادية – إنتاجية، فهو عبارة عن مشروع يُدار عبر مجلسين: مجلس المستهلكين الذين تمثلهم جهات حكومية ومنظمات غير ربحية، وهو المسؤول عن تحديد المنتجات الجديدة المطلوبة للأسواق وكذلك الخدمات والتسويق ومتابعة العملاء. والمجلس الثاني هو مجلس الإدارة المسؤول عن متابعة تنفيذ السياسات والمقترحات الصادرة من مجلس المستهلكين بالإضافة إلى الأمور المالية. وحسب التقرير فان المشروع أسهم بحوالي (100) مليون دولار بشكل مباشر وغير مباشر لدعم اقتصاد ولاية ميرلاند عام 2012، ويساهم أيضا بشكل كبير في مشروعات الخدمة العامة.  

وما يلفت في التقرير، درجة الثقة بالنفس التي اكتسبها نزلاء هذا السجن، عندما يبدون ارتياحهم وسعادتهم من الإعجاب بما يقومون به من اعمال داخل السجن، وهي الدرجة التي يحتاجها أي انسان يعد نفسه مفيداً وضرورياً في المجتمع، من خلال ما يحسنه ويقدمه.

وحسب التقرير فان ادارة هذا السجن، تقدم خدمات سخية، مثل الخدمات الطبية والمكتبة والأنشطة الرياضية وصالة للحاسوب، وايضاً أماكن خاصة للعبادة، كلاً حسب ديانته، واكثر من ذلك، فان الادارة تتيح لمرشدين دينيين بزيارة السجن يوماً كل اسبوع لإعطاء دروس دينية للنزلاء.

من يقرأ هذا التقرير المفصّل، وتجارب اخرى في العالم، يشعر بالحسرة لعدم وجود هكذا مبادرات في بلادنا الاسلامية، لاسيما تلك التي تواجه ظاهرة العنف المجتمعي، مثل العراق وسوريا ومصر. وهل يجب ان تبقى السجون لدينا محلاً للعقاب الصارم وإنزال الجزاء، وحتى التشفّي بالسجين لما فعله، او تكرار الممارسة الارهابية التي ارتكبها، داخل السجن؟.

في كتابه "كيف ينظر الاسلام الى السجين" لسماحة الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- يبين البون الشاسع بين مفهوم السجن في بلادنا، والمفهوم الحضاري الذي كان سائداً في حكومة الامام علي، عليه السلام. ويؤكد "ان للسجن اضراراً كثيرة لا يجبرها شيء، ولا ينبغي للعاقل ان يلجأ اليه إلا في الحالات القصوى من جهة الأهم والمهم، والضرورات تقدر بقدرها".

وفي غير كتاب وحديث مباشر يشير سماحته الى حقيقة ساطعة، وهي ان معالجة العنف بأساليب العنف، لن ينتج سوى العنف المضاعف، إنما الحلول في التعامل الانساني مع السجين مهما كانت تهمته وما ارتكبه من جريمة. وهذا ما تجسد في أول نظام حكم متكامل الابعاد في عهد أمير المؤمنين، عليه السلام، والمثال البارز على ذلك، توصيته، عليه السلام، بقاتله "ابن ملجم"، بأنه لما نفذ محاولة الاغتيال قال: "احبسوا هذا الأسير وأطعموه وأسقوه وأحسنوا أساره فإن عشت فأنا أولى بما صنع بي، إن شئت استنقذت، وإن شئت عفوت..". في حين المعروف في معظم سجون بلادنا الاسلامية، أن المتهم لمجرد دخوله السجن يفقد قدراً كبيراً من إنسانيته وكرامته، فهو ان لم يتعرض لبعض اللكمات والصفعات من هذا وذاك، فانه في أحسن الاحوال لن يتعامل معه كمواطن عادي له حقوقه الانسانية والقانونية.

من هنا يدعو سماحة الامام الشيرازي في كتابه الى إحياء النظام الخاص بالسجين في الاسلام، فهو يقول: ".. لقد أحصينا في بعض مباحث الفقه، عدد الذين يسجنون في الإسلام، فلم يتجاوزوا عشرين شخصاً وكلهم قد أجرموا واقعياً لا جرماً قانونياً، حيث أن تسعين في المائة أو أكثر من هذه النسبة من هؤلاء السجناء في عالمنا الحاضر إنما يسجنون بحجة مخالفتهم للقوانين التي وضعها إما شخص مستبد، أو مجلس وزرائه، أو مجلس ثورته، أو على أحسن الفروض مجلس الأمة فيما لو كانت الانتخابات حرة، مما ليس لها وجود في العالم الإسلامي في الحال الحاضر".

ومن اجل النجاح في عملية التأهيل وإعادة صياغة الانسان في فترة السجن، يوصي سماحته بوصايا عدة تتيح للسجين التمتع بكافة الامتيازات والحقوق التي يحظى بها المواطن العادي، مع الفارق البسيط، انه الاخير حرٌ طليق يذهب أين يشاء، بينما السجين، مقيّد في مكان محدد، إذ يجبره القضاء المكوث فيه لفترة معينة لقاء ما اقترفه من جريمة او مخالفة.

ومما يدعو اليه سماحته:

أولاً: "توفير الشروط الصحية للسجناء، من حيث السعة والهواء والإضاءة والتدفئة والتبريد والأدوات الصحية حتى لقضاء الحاجة مع لياقتها ونظافتها، وتهيئة حمامات كافية يراعى فيها الفصول السنوية، فيتوفر فيها الماء الحار والماء البارد وما أشبه، ويكون الذهاب إلى الحمام حسب رأي السجين نفسه، واللازم صيانة هذه الأماكن ونظافتها باستمرار من قبل الدولة. ومن اللازم أيضاً أن يتوفر للسجين ما يلزمه من الأطباء والأدوية ويسهل عليه مراجعة أي طبيب شاء حتى في خارج السجن".

ثانياً: "تزويد السجين بالمأكل والمشرب والملبس بما يناسبه ويناسب الفصول كالصيف والشتاء ونحوهما، كل ذلك في سعة ورفاه، نعم؛ ورد في الشريعة، التضييق على بعض السجناء وذلك لرجاء أن الضيق يؤدي إلى الانقلاع ـ كما هو الغالب ـ فيخرج من السجن بانقلاعه".

ثالثاً: "يلزم أن يكون هناك مفتش عن أحوال السجناء، وأنه هل تطبق القوانين المرتبطة برعاية السجين في كل النواحي المذكورة أم لا؟ ومن الضروري أن لا يكون المفتش من نفس خط إدارة السجن لإمكان تواطئهم على السجين، بل يكون من خط آخر كحزب معارض أو ما أشبه ذلك..".

رابعاً: "يلزم حفظ ما هو ملك السجين من نقوده وملابسه وساعته والأشياء الثمينة وغيرها، وإثباتها في قائمة يوقّع عليها توقيعاً رسمياً ويرجعها له عند الخروج، واستلام وصل منه".

خامساً: "ليس من حق إدارة السجن الضغط على السجين بأن يلبس ملابس خاصة وإنما هو حسب اختياره".

سادساً: "يلزم أن يكون موظفو السجن على مستوى ثقافي واجتماعي لائق، ولهم أبدان سليمة وأذهان صحيحة، وأن يجتازوا تدريباً عاماً وتخصصاً قبل توظيفهم، وأن يحافظوا على هذا المستوى بل يعملوا على رفعه أثناء الخدمة، وان يمرنوا حتى يكونوا قدوة حسنة للمسجونين في سلوكهم، وأن يكونوا ذوي كفاءة وإنسانية وأخلاق".

سابعاً: "يلزم أن ينضم إلى مدير السجن وسائر الموظفين أخصائيون بعلم النفس وعلم الاجتماع، وهكذا الخبراء في الصناعة والطب وما أشبه، وذلك بصورة مستمرة حتى يمكن تربية السجين وتعليمه والارتفاع بمستواه مما يجعله في المستقبل عضوا صالحاً في المجتمع".

وثمة التفاتة هامة يذكرنا بها سماحته في هذه السياق وهي فصل علاقة السجين بالشرطي.. بمعنى ان يكون السجين – يقول سماحته- حراً طليقاً، يتعامل معه المجتمع كما لو انه انسان عادي، "ولا حق لإدارة السجن بإعطاء الصلاحية للبعض بتأديب الآخرين..". ثم يؤكد سماحته: ".. نعم لا بأس بتدريس بعض السجناء بعضهم الأخلاق أو ما أشبه من العلوم الدينية والدنيوية، أو عقدهم حلقات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو غيرها، يديرها بعض السجناء للآخرين".

مما يؤسف له حقاً، ان البعض في بلادنا يتصور ان استتباب الامن والاستقرار يأتي بملء السجون وايجاد فرص عمل للشرطة وقوى الامن من خلال الاعتقالات لسبب أو لآخر، بدعوى ابعاد المجرمين والارهابيين عن الاجواء الصالحة للمجتمع. وقد ثبت بالدليل ان السجون المليئة بالمخالفات والممارسات اللاانسانية هي التي تكرس السلوك العدواني واللاانساني في نفس السجين، فاذا كان يحمل بذرة العدوان بنمو عشرة بالمئة، فانها بفعل مدارس السجون في بلادنا تتصاعد الى ثمانين وربما مائة بالمئة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 30/نيسان/2014 - 28/جمادي الآخر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م