التعليم العالي والتنمية

حاتم حميد محسن

 

تلعب الجامعات دوراً حاسما في خلق الافكار الجديدة، وفي تراكم ونقل المعرفة. وعلى الرغم من ان الجامعات لم تعد المنتج الوحيد للمعرفة المطلوبة للتنمية، لكنها ومن خلال بحوثها وبرامجها التعليمية تساعد في انتاج الخبرة، وادارة التنمية، وهندسة التحول الاجتماعي، والحفاظ على الانماط الثقافية والقيم الاجتماعية.

يساهم التعليم العالي في نمو كل من الدخل القومي والدخل الفردي. واذا كانت الارض المصدر الرئيسي للثروة في المجتمعات الزراعية، فان رأس المال والمكائن كانا عنصرين هامين في المجتمعات الصناعية. اما في مجتمع المعلومات الراهن، فقد اصبحت المعرفة هي القائد للنمو والتطور. التعليم العالي هو المصدر الرئيسي لتلك المعرفة – سواء من حيث انتاجها، او نشرها او استيعابها لدى المجتمع.

المهارات المتوفرة لدى قوة العمل واسعار تلك المهارات في دول معينة هي التي تقرر مدى تأثير تلك الدول في السوق العالمي. حينما تصبح انظمة الانتاج والخدمات اكثر تعقيدا، فانها تتطلب من العمال مستويات عالية من التعليم. ولكي تتمكن المجتمعات من جذب العمال المهرة والاحتفاظ بهم، لابد من تحقيق التوازن الصحيح بين تعزيز المساواة وتقديم الحوافز الاقتصادية القوية.

التوظيف الجيد والاجور العالية للعمال الحائزين على تعليم عالي ساهم في الازدهار والنمو الاقتصادي في مجموعة دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD . ووفقا للتقرير الذي صدر عام 2012 عن دول الـ OECD (1) ان اكثر من نصف النمو في الناتج المحلي الاجمالي في تلك الدول خلال العقد الماضي كان مرتبطا بالنمو في دخل العمال من ذوي التعليم العالي. حيث وُجد ان اصحاب العمل يدفعون للعمال (بعمر 45 – 54) الحاصلين على تعليم جامعي حوالي ضعف ما يدفعونه من اجور لمن ليس لديهم ذلك التعليم.

يعتمد النمو الاقتصادي حاليا على المقدرة على انتاج السلع المرتكزة على المعرفة. غير ان مستقبل اقتصاد المعرفة يعتمد كثيرا على مقدرته في انتاج المعرفة من خلال البحوث والتطوير بدلاً من السلع المرتكزة على المعرفة. وعليه، فان اقتصاد المعرفة يضع قيمة كبيرة للمعرفة ويمنح اولوية عالية لإنتاجها وتوزيعها . مؤسسات التعليم العالي هي مصدر رئيسي في توفير رأس المال البشري المطلوب لإنتاج المعرفة.

المعرفة وعدم المساواة

مع ان بعض الدول تنتج المعرفة اكثر مما تنتجه الدول الاخرى، فهذا لا يعني انها تحتكر تلك المعرفة . مع تكنلوجيا المعلومات وعبور المعرفة للحدود الجغرافية وبطريقة اسرع من عبور رأس المال والافراد، هذا جعل اقتصاد المعرفة يكتسب طابعاعالميا، سواء في توجهاته او في الطرق التي يعمل بها.

اليوم، يتوفر حجم كبير من المعرفة و بكلفة قليلة جدا، لكن الوصول اليها واستخدامها يعتمد على قدرة الانسان في التعامل معها واستيعابها. وحتى لو كانت طاقة البلد على انتاج المعرفة ضعيفة، فان مقدرته في الوصول الى المعلومات واستيعابها هي التي تقرر السرعة التي يتطور بها ذلك البلد. وعليه، فان التعليم العالي، يلعب دورا حاسما في تعزيز القدرات البشرية للدولة في استيعاب واستخدام المعرفة.

فاذا كانت المعرفة مصدراً للنمو الاقتصادي، فان التفاوت في توزيعها اصبح مصدراً لعدم المساواة بين الدول. الدراسات تبيّن ان عدم المساواة في الدخول هي عالية حينما تكون نسبة الملتحقين في التعليم العالي قليلة. المقارنة بين الدول النامية والمتطورة توضح هذه النقطة. يقال ان انخفاض نسبة التسجيل في التعليم العالي والتفاوت الكبير في الدخول يتلازمان جنبا الى جنب في المراحل المبكرة من التنمية في عدة دول.

لا شك بوجود منافع للافراد من التعليم العالي. كونه يضمن توظيف جيد ورواتب عالية ومقدرة اكبر على الاستهلاك والتوفير. الدخول تتباين بشكل كبير بين مهنة واخرى تبعاً لمستوى التعليم الذي تتطلبه تلك المهن .

ان توزيع الموارد الطبيعية يتباين جغرافيا، وبشكل يختلف كثيراً عن توزيع الموارد البشرية. الاغنياء لديهم امكانية الوصول للتسهيلات والمصادر، بينما المورد الوحيد للفقراء هو قوتهم الجسدية. ان الاستثمار في قوة العمل من اجل المتاجرة بها بأجور أعلى هو احسن طريقة لزيادة الدخل وتقليل الفقر. تعليم الفقراء يساعد في تخفيض عدم المساواة والفقر. الدليل التجريبي من الهند يشير الى ان التعليم العالي يساهم بشكل كبير في خفض الفقر المطلق و الفقر النسبي.

من الوطنية الى العالمية

كان الكفاح لأجل التحرر الوطني مصحوباً بالرغبة في الاعتماد الذاتي في عملية التنمية. في عدة دول، كان بناء الجامعات رمزاً للاعتماد الذاتي. مؤسسات التعليم العالي ساعدت في قيادة التنمية عبر تدريب المواطنين على ادارة اقتصاديات الدول المستقلة حديثا. انها زودت معرفة جديدة لصنع القرارات السياسية، عبر انتاج معرفة جديدة بالاضافة الى تبنّي المعرفة المنتجة في اماكن اخرى. هذه الجهود ساعدت في تطوير نماذج وطنية وتصميم خطط محلية محددة وبرامج تفصيلية، قادت تدريجيا الى استبدال خبراء الخارج بمواطنين في دوائر صنع السياسة.

احدى اعظم مساهمات التعليم العالي هو تطوير انظمة التعليم الوطني. الجامعات ساعدت في تصميم المناهج وتطوير الكتب التعليمية وتدريب المعلمين وتعزيز اللغات القومية والثقافة في جميع مستويات التعليم. الجامعات الحكومية ساهمت في تطوير سياسات التعليم الوطني بصبغة علمانية، لكي تعزز التماسك الاجتماعي والتعايش السلمي. وبمرور الزمن، ساعدت هذه المبادرات في حماية التقاليد والهويات القومية، حتى بوجود التحديات الحالية للعولمة.

هذا الموقف شهد تغيرات في السنوات الاخيرة. الجامعات العامة لم تعد تعتمد كليا على الدولة في تمويلها. سياسات تخصيص الموارد المتبناة في عدة دول تشير الى ان الحكومات تشجع الاستثمارات و النشاطات المضاربة التي تولد دخلاً وتخلق تفاعلا وثيقا بين الجامعات والقطاعات الانتاجية، خاصة في البحوث والتطوير. علاوة على ذلك، سمحت العديد من الحكومات للقطاع الخاص في افتتاح مؤسسات تعمل في التعليم العالي – وهو القطاع الذي ينمو بسرعة في العديد من الدول النامية. كل هذه المعطيات عززت قوى السوق في التعليم العالي، متجاوزةً لحدود الدول القومية.

اليوم، اصبح التعليم العالي سلعة يُتاجر بها عبر الحدود وفق الاتفاقية العامة للتجارة والخدمات GATS. النمو السريع في السوق العالمي للتعليم العالي يشير الى مدى التغير في الاشياء. الاعتبارات الوطنية والتوقعات الاجتماعية يجري استبدالها باعتبارات الربح، كما ان قوى السوق حاليا هي التي تقرر اهداف وافضليات التعليم العالي. تعدد المجهزين، المحليين والدوليين، جعل الانظمة القانونية اقل فاعلية، معطيا نطاقا واسعا لممارسات الاحتيال في مختلف مستويات التعليم العالي. في بعض الاحيان وُجد ان المجهزين عبر الحدود مثيرين للشكوك، وان المؤسسات مخادعة والشهادات مزورة. وهذا دفع منظمة اليونسكو للقيام بعدة خطوات لتشجيع الحكومات الوطنية في تبنّي تدابير ومعايير تنظيمية لحماية المتعلمين.

التغيرات في قطاع التعليم جعلت من الصعب ايجاد توازن ملائم بين الاولويات الوطنية وتأثير عولمة التعليم العالي في العديد من الدول النامية. ومع ان هذه التغيرات زادت من الاهتمام والاستثمار في التعليم العالي، فانه من المهم ان يزداد التدخل الحكومي والسياسات التنظيمية لقوى السوق لتعمل على اساس من عدم الحاق الضرر بالإنسان. بدون مثل هذه السياسات والاطر التنظيمية، سيصبح التعليم العالي وسيلة اخرى لترسيخ اللامساواة بين الناس.

......................................

الهوامش

(1) مطبوعات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (2012)، Education at a Glance 2012. Highlights,OECD publishing.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 29/نيسان/2014 - 27/جمادي الآخر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م