نهاية النظام العالمي الجديد

كريستوفر هيل

 

يبدو أن ضم روسيا لشبه جزيرة القرم والتهديد المتواصل لأوكرانيا يعني نهاية فترة امتدت خمسة وعشرين عاماً وكان أبرز ما فيها محاولة لدفع روسيا نحو قدر أعظم من التوائم مع الأهداف والتقاليد الأوروبية الأطلسية. والسؤال المطروح الآن هو: ماذا يأتي بعد ذلك؟

بمرور الأسابيع، بات من الواضح على نحو متزايد أن التحدي لا يتمثل في أوكرانيا في حد ذاتها ــ والتي سوف تستمر في الترنح من أزمة إلى أخرى، كما كانت حالها منذ استقلالها قبل 23 عاما ــ بقدر ما يتعلق بروسيا وتراجعها وانتكاسها ورغبتها في استرجاع سابق مجدها.

قبل خمسة وعشرين عاماً على وجه الدقة، في ربيع عام 1989، بدأت بولندا وغيرها من البلدان التي كانت معروفة آنذاك بـ"الكتلة الشرقية" أولى خطواتها للتحرر من تحالفها القسري مع الاتحاد السوفييتي. والواقع أن علاقة هذه البلدان بالاتحاد السوفييتي لم تكن تحالفاً حقيقياً على الإطلاق؛ بل كان وصفها الدقيق بدلاً من ذلك هو "الدول التابعة" ــ الدول ذات السيادة المحدودة، التي كان دورها الرئيسي يتلخص في خدمة المصالح السوفييتية.

وبقدر ما كانت هذه العلاقات استعبادية ومناقِضة للتاريخ، فإن قسماً كبيراً من العالم تقبل ربط "أوروبا الشرقية" بالاتحاد السوفييتي باعتباره حالة منطقية، بما يتماشى مع النظام العالمي الذي نشأ مع نهاية الحرب العالمية الثانية. ولكن ما بدا وكأنه تقسيم دائم للعالم إلى مجالات متنافسة ذات اهتمامات متضاربة انتهى في عام 1989، عندما تركت الكتلة الشرقية المدار السوفييتي، ثم سرعان ما تبعتها جمهوريات الاتحاد السوفييتي ذاتها.

ولم تخرج روسيا كاتحاد سوفييتي أعيدت تسميته، بل كدولة لها تاريخها ورموزها الخاصة، وعضواً في النظام الدولي كان غائباً لبعض الوقت، ولكنه عاد فجأة. وبدا الأمر وكأن روسيا التي ولدت من جديد مخلصة بطريقتها الخاصة لنفس أهداف جيرانها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي: الالتحاق بعضوية المؤسسات الغربية، واقتصاد السوق، والديمقراطية البرلمانية المتعددة الأحزاب، وإن كان ذلك بوجه روسي.

وقد صمد هذا النظام العالمي الجديد نحو خمسة وعشرين عاما. وباستثناء حرب روسيا الوجيزة ضد جورجيا في عام 2008 (وهو الصراع الذي ينظر إليه عادة باعتباره ناجماً عن تهور القيادة الجورجية)، فإن انصياع روسيا والتزامها بالنظام العالمي الجديد، ولو أنه لم يخل من المشاكل، كان واحداً من أعظم إنجازات حقبة ما بعد الحرب الباردة. وحتى إحجام روسيا عن دعم العمل الغربي المتضافر، كما حدث في البوسنة وكوسوفو في تسعينيات القرن العشرين، استند إلى حجج كان من الممكن سماعها في دول أوروبية أخرى. ومن المؤكد أن ديمقراطية روسيا لم تكن خالية من العيوب، ولكن هذا لم يجعل منها كياناً فريداً بين بلدان ما بعد الشيوعية.

إن العلاقة التاريخية بين روسيا وأوكرانيا أكثر تعقيداً ودقة من تصورات العديد من المفكرين والخبراء الغربيين. ومن الصعب أن نتحدث عن حضارة روسيا من دون أن نذكر أوكرانيا. ولكن أياً كانت التعقيدات، فإن سلوك روسيا في التعامل مع جارتها الأصغر حجماً مؤخراً يضرب بجذوره في إرث تاريخهما المشترك.

بل يمتد تاريخه إلى إرث مختلف ــ إرث الإمبراطورية الروسية التي لم تمت عاداتها خلال الحقبة السوفييتية. والواقع أن أوكرانيا لم تطور ــ وربما لم تتمكن من ذلك ــ سيادتها على النحو الذي نجحت بولندا وغيرها من البلدان في تحقيقه منذ عام 1989؛ ولكن من حقها رغم هذا ترسمها مستقبلها بنفسها. وبالتالي فإن التحدي الذي تفرضه روسيا على وضع أوكرانيا كدولة مستقلة يشكل تحدياً للعالم بأسره، ولهذا السبب ارتفعت الأزمة إلى قمة الأجندة العالمية.

في الولايات المتحدة، تشير وسائل الإعلام عادة إلى أن أغلب الأميركيين قد تصادفهم صعوبة كبيرة في محاولة البحث عن أوكرانيا على الخريطة. إنهم ليسوا بحاجة إلى هذا. ولكن يتعين على الأميركيين أن يفهموا التحدث الذي تفرضه عليهم روسيا التي لم تعد مهتمة كما يبدو بما قدمه لها الغرب على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية: وضعها الخاص لدى حلف شمال الأطلسي، وعلاقتها المتميزة مع الاتحاد الأوروبي، ومشاركتها في المساعي الدبلوماسية الدولية. ويبدو أن كل هذا لم يعد على الطاولة في الوقت الراهن.

ماذا ينبغي للغرب أن يفعل إذن؟ إن النهج القائم على فرض عقوبات تستهدف الاقتصاد الروسي (وبالتالي الشعب الروسي) يُعَد البديل المفضل لدى أولئك من ذوي القدر الأقل من المصلحة في الأمر (وأعني الساسة الأميركيين). ولكن العقوبات من غير المرجح أن تجلب التغيرات الداخلية التي تحتاج إليها روسيا، لأن هذه التغيرات لابد أن تكون من إنجاز الشعب الروسي ذاته.

وبالنسبة للغرب، لابد أن تتمثل القضية الحقيقية في دعم البنية الأمنية والاستعداد للأمد البعيد. وقد اتخذ حلف شمال الأطلسي خطوة مهمة في طمأنة أعضائه الشرقيين. ولا يعني هذا أن روسيا، التي ضمت شبه جزيرة القرم وهددت أوكرانيا، سوف تسعى إلى تكليف نفسها عناء جهود مماثلة بين "الحلفاء" السوفييت السابقين. ولكن الذكريات التاريخية لا تموت بسهولة.

يدرك البولنديون جيداً أن كلاً من فرنسا وبريطانيا كانت قبل 75 عاماً من أطراف الاتفاقيات الأمنية التي أرغمتهما على إعلان الحرب ضد ألمانيا إذا غزت بولندا. وفي سبتمبر/أيلول من عام 1939، عندما غزت ألمانيا بولندا بالفعل، أعلنت فرنسا وبريطانيا الحرب على ألمانيا التزاماً بذلك التعهد، ولكن لم تُطلِق أي منهما رصاصة واحدة ولم تساعد بولندا بأي طريقة ملموسة. ثم اختفت بولندا من خريطة أوروبا لخمس سنوات.

إن أزمة أوكرانيا في واقع الأمر أزمة روسية. ذلك أن أوكرانيا ــ أو ما يتبقى منها في نهاية المطاف ــ سوف تصبح على نحو متزايد بلداً غربيا. ولا تبدي روسيا أي علامة تشير إلى أنها قد تحذو حذوها.

وبدلاً من ذلك، يبدو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتن يَعُد العُدة لشتاء دبلوماسي طويل. والواقع أن الولايات المتحدة لابد أن تكون مستعدة لهذا الشتاء، وخاصة بدعم الشركاء والحلفاء، والعمل على قدر الإمكان على ضمان كون أوكرانيا آخر ضحايا روسيا وليس أولاها.

* مساعد سابق لوزيرة الخارجية السابق وزارة الخارجية الامريكية لشؤون شرق آسيا، السفير السابق للولايات المتحدة لدى العراق

http://www.project-syndicate.org/

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 24/نيسان/2014 - 22/جمادي الآخر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م