الترويج الدعائي في الانتخابات العراقيّة

قراءة في رمزية الشعار السياسي

د. علي محمد ياسين

 

في بلد كالعراق لم يتبلور فيه المشروع الديمقراطي الفتي بصورته السليمة والمثاليّة إلى مستوى تُغلّب فيه المنفعة الوطنية الكبرى على ما سواها من المنافع كان اللجوء لصناديق الاقتراع أحد الحلول التي تستطيع الفصل بين المصالح والأفكار والتوجّهات والبرامج السياسية، وهو ما دأبت عليه الأحزاب والكتل والشخصيّات الطامحة سياسيّا منذ ما يزيد على العقد تقريبا في تسابق دعائي دوري لتسويق أهدافها وطموحاتها ورؤيتها العامة، وقد جمع هذا التسابق بين الطرح الحضاري المتأنيّ حينا في انتقاء اللافتة الدعائيّة وأيقونتها المركّزة، وبين التسرّع والعشوائيّة حينا آخر في اختيار الأيقونة الدعائية التي تمرِّرُ باختزال شديد رؤيةَ الأحزاب والكتل والأشخاص، وتسعى إلى هدف التأثير بالناخب العراقي من خلال قدرة الأيقونة على تحريك مشاعر الناخب وعقليّته وتوجيه قناعاته بإيحاء من ذلك صوب هذا الحزب أو تلك الكتلة.

وبما أن عملية الوصول إلى نتائج إيجابيّة في محصلة صناديق الاقتراع النهائيّة ليست بالعمليّة الهيّنة في بلد تطحنه التمزّقات العرقيّة والطائفيّة والفئويّة، لذا كان لا بدّ للمرشحين من استخدام وسائلهم المشروعة في التأثير بجمهور الناخبين من خلال طرق وقنوات عديدة لا مجال للحديث عنها جميعا، لأن هدفنا هو تأمّل اللافتة الانتخابية ذاتها، ومحاواة قراءة الرمز الأيقوني الذي يختزل هذه اللافتة بما يمكن التعامل معه من قبل الناخب على أنه هويّة أو صورة بصريّة شديدة التكثيف تُرافق الكيان الحزبي، وتصحب رموزه البشريّة والجغرافيّة عاكسةً رؤاهم الخاصّة وأفكارهم العامة إلى درجة باتت معها هذه الصورة في أذهان الكثيرين بمثابة الشعار المعبّر للكتلة السياسيّة، والممثّل لها، أو للحزب أو للكيان المتنافس.

وربّما تفيدنا إطلالة سريعة لتحديد عناصر الفعل التواصلي من خلال صيغة الإرسال وعمليّة التلقي التي أُنجزت على أساسها عملية الترويج الدعائي بوصفها رسالة اقتضت وجود مرسِل (بكسر السين) هو بالضرورة الكيان السياسي الحاضر بصفاته التي يجسّدها الشعار بغضّ النظر عن طبيعة الاصطفافات الأيديولوجيّة التي تؤطر نظامه الداخلي (إسلامي، ليبرالي، مستقل، شيوعي إلخ) كما اقتضت عملية التواصل وجود مرسل إليه هو - حتما - جمهور الناخبين المتعدّد المشارب والمتنوّع الميول وهو الوسط المفترض الذي تحاول الرسالة (اللافتة الانتخابيّة) عبر ثيمتها الرئيسة (شعارها) التأثير به وزجّه في منطقتها الجغرافيّة، أو تحييده جغرافيّا على أقل تقدير.

وإذا ما استثنينا نسبة كبيرة من فئات الشعب العراقي التي تعيش خارج حدود اللعبة المذكورة بجهلها للقراءة والكتابة، وبحاجتها بالنتيجة، إلى رموز محسوسة لا إلى رموز مجرّدة تتعرف بواسطتها على الأحزاب والكيانات السياسيّة، ثمّ تفرّق بينها على أساس ذلك، فإنّ فئات من طبقات اجتماعيّة أخرى لها قدر لا بأس به من التعليم لا تلتفت - أيضا- للرمز الأيقوني أو (الشعار) لأسباب عديدة بعضها يتعلّق بطبيعة الوعي، وبعضها الآخر متعلّق بعدم امتلاك القدرة على تفكيك المداليل الرمزيّة الكثيرة المختفية وراء الشعار المتّخذ وسيلة للوصول إلى الناخب من أجل التأثير بقناعاته وميوله السياسيّة، فضلا عن عوامل أخرى لا نريد الوقوف عليها جميعا قدر الوقوف على قراءة المضامين والخصائص التعبيريّة التي من الممكن أن تشتمل عليها الرموز والشعارات التي اتّخذتها الأحزاب السياسية وسيلة للترويج الدعائي في الوصول إلى الناخب العراقي، وتحديد قدرة الرمز في الإفصاح عن الهوية السياسيّة والفكريّة لكل كتلة من الكتل أو حزب من الأحزاب السياسيّة المتنافِسة.

واستنادا إلى ما سبق فمن المعروف أن التجربة الإنسانيّة عبر رحلتها الحضاريّة الطويلة خبّأت في بعض أشياء الكون وفي بعض كائناته عديدا من عناصر الثقافة البشريّة الحضاريّة المتراكمة منذ قرون طويلة، وهذه الأشياء والكائنات لا يمكن أن تحمل أبعادا رمزيّة إلا بعد خضوعها لسلسلة معقدة من حالات الاستعمال والتدليل عبر خزين متراكم من الذاكرة البشرية الموغلة في القدم، ثمّ تكتسب هذه الأبعاد قيمتها وديمومتها ضمن جماعة ثقافيّة معيّنة عن طريق التداول المستمر للرمز في نشاط الجماعة التعبيري وفي تواصلها اليومي القائم على الإبلاغ والتفاعل والتوجيه والإقناع ومخاطبة الذاكرة والحاسّة البصريّة وسوى ذلك، وهذا ما يفسّر صلاحية بعض الرموز التي تداولها البشر للتدليل، كالسنبلة والمنجل والقلم والميزان والسفينة والنخلة والشمس، والأسد والصقر والأفعى إلخ، دون البعض الآخر، كأواني الطبخ والسيارة والديناصور والخنفساء مثلا، لما تحمله الأولى دون الثانية من قيم تعبيريّة منحها التداول الاجتماعي البشري المستمر قيمةً وقابليّة على التدليل والترميز المكثّف.

وهذا ما سيدفع إلى القول: إن مستلزمات الترويج الدعائي لطلب ودّ الناخبين تفترض أن يكشف الكيان السياسي أو الحزب المتقدّم للانتخابات عن هويته السياسيّة الخاصّة، وهي هويّة ليس من المقبول، وليس من صالح الكيان أو التكتّل الحزبي أيضا، أن تُعرض لجموع الناخبين مفصولة عن هويّة فكريّة وحضاريّة، هي بمثابة المرجعيّة التي يستمد الكيان منها تصورّه وفهمه للقضايا الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة المتنوّعة، وإليها يرتكز في التعامل مع الواقع الراهن، وفي صياغة برامجه ومعالجاته لهذا الواقع من خلال أفعال وسلوكيّات سياسيّة مشخّصة، وعند غياب هذا الأمر سيتحوّل الكيان الحزبي إلى ما يشبه المؤسسة المدنيّة التي لا تمتلك الأهليّة اللازمة في تأسيس برنامجها السياسي الخاص، فضلا عن عدم امتلاكها القدرة والطموح في المنافسة السياسيّة للآخرين.

- صيغة الإرسال وفعل التلقي

 لكي ننتقل من الدلالة التعيينيّة المباشرة التي يطفح بها الشعار الحزبي الموظّف إلى بعض وجوهه الإيحائية الممكنة، أي إلى الدلالات الجديدة الكامنة لا بدّ من استثارة بعض هذه الدلالات لتفصح عن إمكانيتها وقابليّتها في خدمة الترويج الدعائي المندرج في المشهد البصري الذي تشي به اللافتة، دون تبنّي أية رغبة في ترجيح كفّة على أخرى أو شعار على آخر، قدر الرغبة في محاولة تحديد العلاقة الممكنة بين رمزيّة الشعار و(الترويج الدعائي) بوصفه الواقعة المخصوصة التي حُشّد فيها الشعار ليؤدي دوره في البثّ والتأثير، وسنبدأ بالكتلة الأكثر عددا بالمتحالفين نزولا للأقل عددا، وكالآتي:

- ائتلاف العراق هو أكبر الكيانات المؤتلفة بمشروع واحد من حيث العدد، إذ وصل عدد الأحزاب والكيانات المندرجة تحت يافطته إلى (29) كيانا متعدد التوجّهات ومتنوّع المشارب السياسيّة متجاوزا بذلك العقدة الطائفيّة إلى حدّ ما، فقد ضمّ الائتلاف بين أفراده ساسة وأكاديميين ورجال عشائر ورجال أعمال ومسؤولين حكوميين ومتقاعدين وموظفين حكوميين من الجنسين، ومن الطائفتين الشيعيّة والسنيّة، وقد طرح لافتته الدعائية ذات اللون البرتقالي المثير والجاذب للحاسة البصريّة، فجعل الشعار منها في أعلى اليسار، وتحته مباشرة جاء رقم المكوّن الحزبي، أمّا أيقونته الدعائيّة فتشكّلت من دائرة واضحة الملامح محيطها عبارة عن ثلاثة أجزاء متساوية من حيث المساحة التي يشغلها كلّ جزء، وقد شغل الجزء الأعلى من هذه الدائرة علم العراق، في حين احتلّت سنبلتان جهتي منتصف محيط الدائرة من اليمين ومن الشمال، وترصّعت تحتهما عبارة (ائتلاف العراق) فيما توسط هذه الدائرة مباشرة مشخّص بارز لـ(وردة متنوعة الألوان) وكما هو معلوم فالوردة رمز كوني إنساني، وقد اشتملت هذه الوردة على ثماني ورقات كلّ ورقة بلون مختلف، وبذلك فاقت ألوانها ألوان الطيف الشمسي السبعة! وبهذا يضيف الشعار مستوى آخر من مستويات المعنى الذي قد توحي به صورة الوردة وأوراقها الثمانية، وهو معنى قد يفيد الخروج إلى التدليل على الانفتاح والتعدديّة والاعتراف بالاختلاف وسوى ذلك من قيم حضاريّة متمدّنة، ومعلوم أيضا أنّ للوردة إحالة إلى القيم الجميلة والنفوس المهذّبة وإلى الحياة في أبهى لحظات عنفوانها، كما أنّ للوردة حضورا واضحا أيضا، في شعارات بعض الأحزاب الأوربيّة ذات المنحى الاشتراكي، وربّما كان لوجود الكثير من أعضاء هذا الكيان وإقامتهم في البلدان الأوربيّة أثرهما في اتّخاذ هذا الرمز الأيقوني شعارا للكيان المستوعب للإشكاليّة السياسيّة والعرقيّة والدينيّة في البلاد.

- تنفتح لافتة كتلة المواطن ذات العشرين تحالفا حزبيّا على فضاء أصفر فاقع (يسرّ الناظرين!) ويشدّ المتلقي من خلال قدرته على الإحالة إلى الدفء لأنه لون أشعة الشمس ولون السعادة، والبهجة، والمرح، والتفاؤل، والإبداع والفضول...إلخ، وإذا ما استثنينا من اللافتة الترميز الذي قد توحي به صورة الطفلين - وهي ثيمة استثمرها بعض خصوم الكتلة للتشهير والطعن بسبب ارتباطها الدعائي بماركة حليب أطفال مشهورة - فإنّ اللافتة يتوسّطها من جهة اليمين قليلا شعار الكتلة السياسي، وهو (نخلة خضراء) لها خمس سعفات، ومن المعروف أنّ للنخلة ثيمة مخياليّة ذات بعد محلي نوعا ما، فهي مرتبطة بإنسان الجزيرة العربيّة والعراق خصوصا ارتباطا وثيقا، وهي عمّتنا – بحسب الحديث النبوي الكريم – لأنها خُلقت من فاضل طينة أبينا آدم، وهي الشجرة المقدسة في الحضارات العراقيّة القديمة، وبهذا فالتدليل من خلال النخلة هو فعل من الممكن أن يُدرج هذه الشجرة ضمن رمزيّة خاصة تحيل على حالات حضاريّة مرتبطة ارتباطا وثيقا بحيّز ثقافي بحدود محليّة، وربّما أرادت كتلة المواطن أن تضيف للملفوظ والمكتوب الذي طرحته (المواطن) رمزا مذكّرا بالوطن والوطنيّة من خلال شعار النخلة المشار إليه، لكن هذا المسعى لم ينج من الوقوع بمطبّ الإخفاق من خلال انفتاح قابليّة التدليل الذي قد توحي به صورة (السعفات الخمس) في أعلى رأس النخلة، فالعدد (5) ربّما يحيل إلى حمولة ذات بعد عَقدي يرجع بالناظر إلى الخمسة - عليهم السلام - من أصحاب الكساء، وبذلك يمتزج البعد الوطني الذي من الممكن أن ترمز له النخلة ببعد آخر أيديولوجي ذي نزعة بعدها طائفيّ واضح، وهي - دون شكّ - نزعة مضمرة في أعماق البنيّة اللاشعوريّة للقائمين على شؤون هذه الكتلة!

- ائتلاف الوطنية وهو الائتلاف الثالث من حيث نسبة عدد المتحالفين التي وصلت ما يقارب الخمسة عشر تحالفا سياسيّا اختلفت توجّهاتهم وهويّاتهم الاجتماعيّة، فمن الأكاديميين إلى رجال الأعمال والإعلاميين، ومن شيوخ العشائر إلى ساسة ومسؤولين حكوميين استظلّوا كلّهم تحت مظلّة واحدة تذوّب إلى حدّ ما الخلافات الإثنيّة والثقافيّة هي مظلّة الوطنيّة التي اتخذت عنوانا للائتلاف الذي قدّم شعاره السياسي في أعلى يسار لافتته الدعائيّة ذات اللون الأزرق الغالب على ألوان أخرى تشاركه الحضور، وقد جاءت الأيقونة الحزبيّة للائتلاف عبارة عن هلال إسلامي مجسّم على هيأة خريطة العراق بألوانه التقليديّة وقد انفتح هذا الهلال من جهة اليمين على نخلة مثمرة في رأسها ثماني عشرة سعفة، وفي الأسفل منها خطّان بالأزرق والأزرق الفاتح يمثلان نهري دجلة والفرات، وقد شكّل المجسم بأجمعه محيط دائرة ضمت مجموعة من الرموز المتماهية مع طبيعة الشعب العراقي، وذلك للذهاب بالرمز إلى عمق الجمهور المخاطب بمختلف مستوياته الاجتماعية والثقافية والتعليمية، فالنخلة التي سبق الحديث عن رمزيّتها بشكل عام، قد أثمرت في هذه الأيقونة لتزيد في إغراء المخاطب/الناخب ولتوحي له باقتراب أوان القطاف مع التصويت لهذا الائتلاف! في حين راعت الأيقونة ضرورة مداعبة خيال ومشاعر الناخب ذي التوجّه الديني عبر إدراج الهلال الإسلامي المجسّم بحسب ألوان العلم العراقي.

- يلّخص شعار ائتلاف دولة القانون (الميزان) نظريّة الائتلاف وفلسفته الخاصة، وهو يُعرض ضمن يافطة الائتلاف ذات اللون الأخضر الفاتح في أعلى وسط اللافتة، وفي الأسفل منه رقم الكيان معتلياَ عبارة (معا نبني العراق) بطريقة خط اعتادها المتلقي العادي في أماكن ومناسبات ترويج حكوميّة عديدة، ومن المعروف أنّ للميزان رمزا كونيّا، فقد عُرف في كل الثقافات الإنسانيّة من خلال إحالاته على العدل والقسط بالقياس والتوازن والحق، وقد زخر موروثنا الإسلامي بصوّر متعدّدة ذكرت الميزان، وهي صور يحيل أغلبُها على الحث والدعوة لإقامة العدل وإشاعة مبادئه الإنسانية وقيمِه بين الناس، كما أنّ نصوص القرآن لا تني تذكّر بمبدأ العدالة المرتبط مجملا بالميزان (واقيموا الوزن بالقسط، ولا تخسروا الميزان) فضلا عن أنّ واجهات أبنية القضاء والمحاكم المدنيّة ظلّت مزدانة في كلّ دول العالم بصورة الميزان لارتباطه بالعدالة والقضاء، أمّا في حالة توظيف الائتلاف السياسي المذكور، وهو ائتلاف يهيّمن عليه حزب الدعوة الإسلامي بشكل أو بآخر، فربّما كان لمبدأ الوسطيّة أو التعادليّة التي بنى عليها الحزب بعض مفاهيمه السياسيّة والاجتماعيّة والدينيّة، وهي مفاهيم تحاول التوفيق بين مجموعة مواقف دينيّة ودنيويّة على أساس العدل والاعتدال، ومن هنا كانت الحاجة إلى رمزيّة (الميزان) تعبيرا عن فكر ديني - سياسي يطمح كي يكون معتدلا في طرحه العام، وبسبب ذلك كانت هذه الرمزيّة مقتصرة على الفكرة المشار إليها، إذ إنّها لا تكاد تتجاوزها إلى غيرها من الأفكار التي من الممكن أن يُتيحها التخريج الدلالي لرمز الميزان الضيق الأفق من ناحية إمكانيّة انفتاح فضائه الإيحائي إلى مديات رحبة، وهو ما يجعل إحالة الميزان بالنتيجة، لا تصبّ في خانة ما يعدّد وينوّع ويختلف بقدر ما يصبّ في خانة ما يجمع ويوحّد، وربّما جسّدت السياسة العامة للائتلاف خلال السنوات الماضية هذا الأمر وأكّدته في مناسبات ومواقف عديدة.

- يقدّم ائتلاف الإصلاح الوطني/الجعفري نفسه من خلال يافطة متعدّدة الألوان مع غلبة اللون البنفسجي الفاتح على فضائها العام، ولعلّ هذا الائتلاف هو الوحيد الذي ذكر اسم رئيسه ضمن عنوان الائتلاف (ائتلاف الإصلاح الوطني / الجعفري) معوّلا على نزاهة الرجل ونقاء يده في زمن لم يعد يُحتكم في العمل السياسي إلى فرادة الزعيم وتميّزه، أمّا الشعار الذي اتّخذه الائتلاف رمزا له فهو عبارة عن سفينة شراعها العلم العراقي. وإذا ما استبعدنا العبارة التي احتلت مساحة ما أسفل الشعار، وهي عبارة (الإصلاح هدفنا) المتماهية مع صورة الشعار بعموميّتها وبساطتها، فإنّ السفينة رمزٌ موظّف لغرض تنشيط ذاكرة دلاليّة سهلة الإدراك أيضا، فهذه السفينة قد تحيل على سفينة نوح التي نجا من ركبها وغرق من تخلّف عنها! وقد تنحرف إحالة دلالة سفينة الإصلاح قليلا فتتوجه صوب منطقة تُذكّر بالبعد الشيعي حيث (سفينة النجاة) المرموز لها بولاية أهل البيت (ع)، لكنها في اللافتة تمخر عباب الموج الوطني بشراع وطني أيضا، وهذا ما قد يُكسبُها مشروعية النفوذ إلى موانئ تقع خارج حدود حركتها، لكن من دون أن تحدّد هذه السفينة - بدقّة - من خلال رمزيّتها مواقع الإمساك الحقيقيّة لنمط الوجود الثقافي والسياسي المشتبكين للشعب العراقي.

- أما كتلة الأحرار ثلاثية التحالف، وربّما بسبب ما تتمتع به من أصالة ومن انكفاء على مناطق نفوذها بوسط وجنوب العراق، فقد أبرزت أيقونتها الدعائّية بصورة ليست بعيدة عن امتداداتها المحليّة، فاللون البرتقالي الساطع والبارز، حيث تنسب له الكثير من الصفات الايجابية كالحيوية، والنشاط والطاقة كان اللون السائد في اللافتة، في حين بدت الأيقونة واضحة التدليل إلى حدّ ما، فهي عبارة عن كفين مفتوحتين على ورقتي وردتين، الأولى حمراء على يمين الصورة تعلوها كلمة (الله) مكتوبة باللون الأخضر، والاخرى سوداء على يسار الصورة تعلوها كلمة (أكبر) مكتوبة بلون أخضر في إشارة للعلم العراقي، وقد توسطت الكفين والورقتين راية العراق وهي تلتف ثلاث لفات على عصا ربما تشير إلى عكازة الشهيد الصدر أو عصاه التي عرف بها وكانت رفيقا دائما له في خطب الجمعة، في حين راح المجسّم كلّه يحكي شكل الوردة، ولعلّ الرمز بأجمعه هنا هو جزء من الهمّ اليومي لهذا الائتلاف المعروف بعمق تجربته الانتمائيّة المحليّة.

- أما بقية الكيانات الصغيرة فقد احتمت في لافتتها السياسيّة تحت خريطة العراق بتنويعات وتفريعات عديدة، وكأنها تتذرع بالرمز الوطني الذي تحيل إليه الخريطة لعجزها عن انتقاء أيقونة تتواصل من خلالها مع عموم الناخبين، وقد خرج عن هذه القاعدة بعض الكيانات والائتلافات السياسية، كائتلاف الوفاء الذي طرح شعاره السياسي من خلال أيقونة تتشكل من مسقط جانبي لرأس صقر تعتلي خطين: أحدهما أحمر والآخر أسود في إشارة إلى العلم العراقي، ولعلّ حداثة تجربة هذا الائتلاف كانت وراء اختيار أيقونة الصقر الطائر المعروف بشدته المنفلتة عن كلّ القوانين، وبقسوته على فرائسه، وذلك ما يجعلنا نتساءل عن سرّ العلاقة الموجودة بين الصقر كجارح مفترس وبين القيم السياسية التي يدعو لها هذا الائتلاف وهي قيم من المفترض أن تكون قيما نبيلة وسامية! وهو ما يدعو إلى ضرورة أن تشتمل كلّ الائتلافات والاحزاب على لجان عمل، وعلى ورش رقابة داخلية تتولى مسألة العلاقة التواصليّة الصحيحة في كل ما تطرح للملأ من أجل تحقيق أعلى مستويات التأثير في عموم المتلقين.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 24/نيسان/2014 - 22/جمادي الآخر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م