حقوق المواطن وطغيان الايديولوجيا

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: اذا قرأنا التجارب الناجحة لأنظمة حكم ديمقراطية في العالم، نجد أن الاحزاب السياسية المتنافسة هناك، بما لديها من افكار وتوجهات، تسعى بالدرجة الاولى لمحاكاة واقع الناس ومطالبهم وطموحاتهم، فيكون العمل لخفض نسبة الفقر والبطالة والضرائب، ثم رفع مستوى النمو الاقتصادي من خلال سياسة الانفتاح او الخصخصة او غيرها، كما يكون التوجه نحو مسائل اجتماعية وأسرية، اضافة الى مسائل البيئة والصحة والهجرة وغيرها. وهذا لا يظهر خلال الحملة الانتخابية فقط، إنما نشهده على الخطين المتوازيين؛ لدى الاحزاب المعارضة خارج نطاق الحكم، وايضاً لدى الحزب أو الائتلاف الحاكم، طوال السنوات الاربع المقررة.

أما الحديث عن الايديولوجيا او ما يحمله الحزب عقيدة سياسية، فانها تظهر من خلال أدائه وتعاطيه مع الواقع، لذا نجد التعريف بالتوجهات "اليمينية المحافظة"، أو "اليسارية" أو "الكنسية" وغيرها، يترافق مع نوع الموقف الذي يتخذه هذا الحزب او ذاك أزاء القضايا المطروحة، لاسيما فيما يتعلق بالمسائل الاجتماعية او بالعلاقات مع العالم الخارجي، مثل المشاركة في الحروب وفي الاطاحة بالأنظمة الديكتاتورية.

واذا ما جانبنا الحقيقة، فان هذا هو النموذج الأقرب الى الصواب في علاقة المجتمع بالدولة، فالمجتمع في كل مكان، ومنه المكان والبقعة التي نعيش عليها، وكذلك سائر المسلمين، بحاجة الى الخدمات والأمن وفرص التقدم، قبل الكلمات والشعارات والافكار المجردة، لانهم اذا وجدوا تهميش تلك الحاجات والمطالبات لصالح الافكار الحزبية والفئوية، فانهم سيشعرون أنهم امام ديكتاتورية جديدة، غير التي عهدوها من ضباط الانقلاب العسكري واصحاب السجون واساليب التعذيب والتهجير والتصفيات الجسدية.

وهذا يحصل عندما نفقد التناسب بين الرأس المفكّر والجسم المنفّذ لدى بعض الاحزاب والتنظيمات في بلادنا، فربما تكون هنالك شعارات وحتى اهداف اسلامية، لكن أطراف الجسم تتصرف بشكل ديكتاتوري – قمعي. وهذه التصرفات لن تظهر الى الواقع الخارجي إلا عندما تتلقى إشارات مباشرة من العقل المفكر الذي بدوره يتغذى من عناصر الحياة، كما النبتة الطيبة في التربة الطيبة. واهم هذه العناصر هو "الحق". فهو الميزان والمعيار لما هو خطأ أو صواب، وما يجب فعله او ما يجب تركه واجتنابه. ولذا نجد سماحة الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- في كتابه "السبيل الى انهاض المسلمين"، يربط بين التنكّر لمعيار الحق، وبين الصنمية الايديولوجية، او ما يعبر عنه بـ "صنمية التنظيم". ويحذر سماحته من أن هذا النمط من التفكير يؤدي الى تنحية "الحق" كمعيار أساس في الوجود، واستبداله بالفكر الحزبي والمذهب السياسي، واصفاً بأن هذا "أخطر ما يقع فيه التنظيم الاسلامي".

وعندما نرى ابتعاد او تجنب البعض عن الحق، فان مردّه الى أن الالتزام بهذا المعيار يضع صاحبه على سكة المطالبات "الحقّة" التي ما مراء وجدال فيها، فالعدل حق، والحرية حق، والكرامة الانسانية حق، كما أن الحقيقة حقٌ ايضاً. وهذا تحديداً بعض الاحزاب والتيارات السياسية في بلادنا الى تقديم البديل الايديولوجي على أنه صاحب القراءة الافضل لهذه المطالب، بل هو الذي يمثل "الحق"!. وما سواه باطل او غير سليم.

هذه النتيجة وصلت اليها شعوب عديدة في المنطقة ممن جربت الديمقراطية مع احزاب وتيارات سياسية، بين من رفع شعار "الإصلاح"، ومن رفع شعار "الانفتاح"، ومن رفع شعار "القانون"، وغيرها من المفاهيم الفضفاضة التي ربما تحاكي جزءاً من اهتمام الناس ومطالبهم، اذا لم نقل انها من البديهيات أو تحصيل حاصل.

لذا عندما نسمع بتفشي وازدياد حالات الفساد الاداري في المؤسسات الحكومية والظلم في القضاء، الى جانب تراجع مستوى الخدمات وتعقد الوضع المعيشي في بلاد تعجّ بالشعارات المشار اليها، نلاحظ في الوقت نفسه، حالة تضخم وطغيان في الايديولوجيا الحاكمة، فيقال لمن لايوافق "الإصلاح" بأنه "رجعي"، ومن لا يوافق "القانون"، بانه "فوضوي" وهكذا. وكلما كانت السطوة والهيمنة الايديولوجية اكبر وأعمق في المجتمع كان حظوظها في البقاء في السلطة اكثر. فاذا كان هذه السطوة ضعيفة، صعد على انقاضهم التيار المحافظ الأشد ديكتاتورية في الايديولوجيا، وإن حافظ على مكانته السياسية وبقي في هرم السلطة، وقع في المحذور الآخر ألا وهو مستنقع التناقض بين الشعارات وبين الواقع الذي يعيشه الناس.

 وهذا ما يشير اليه الامام الشيرازي حيث يشير الى الصنمية أو طغيان الايديولوجيا يدفع الحزب الحاكم الى التناقض مع نفسه، فهو ربما يدعو الى القضايا الحقّة، مثل العدالة والحرية والانفتاح والكرامة وغيرها، إلا إن الأداء على الأرض يكون مختلف تماماً، فالعدالة ربما تكون للمقربين والمنتمين، وليس لعامة الناس الذين ربما لايؤمنون بافكاره ورؤاه. وهو بذلك يشير الى احد سبل النجاح السياسي عندما يكون الحاكم حقانياً، ويكون مصداق الحديث الشريف: "قل الحق ولو على نفسك"، بمعنى أن يكون الحزب مهما كبر بافكاره ورؤاه، وصحّت واصابت، فانه يجب ان يكون أول من يضحي بمصالحه حتى يأخذ الحق مجراه بين اوساط المجتمع.

واعتقد ان من المفيد نقل رواية عن الامام الشيرازي نفسه، نقلها ابنه الفقيه الراحل السيد محمد رضا الشيرازي – قدس سره- فقد سأله ذات مرة عن سبب امتناعه عن بعض المباحات بما يخفف عنه العناء والجهد، فكان جوابه؛ أي بُني..! إن فعلنا نحن المباحات فان الناس سيتثاقلون عن الواجبات..".

من هنا يجب ان يكون واضحاً لنا وللجميع، لاسيما المعنيين بالامر، إن استمرار حالة التعارض بين الشعار والتطبيق، وطغيان الايديولوجيا بما يزيد الفاصلة بين حقوق الناس والنظام الحاكم، ربما لن يستمر طويلاً دون افرازاته الخطيرة ومآلاته المدمرة. فالطغيان، يبقى طغياناً، سواءً كان على شكل جنرال في الجيش أو عائلة مستبدة بالحكم او حتى حزب بأفكار يعتقد أنها تفيد الناس في الحاضر والمستقبل.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 5/نيسان/2014 - 3/جمادي الآخر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م