النزاهة.. من قاموس الامام الشيرازي

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: تتردد كلمة النزاهة بكثرة كاثرة في الخطاب اليومي، فهي تجدها على السنة السياسيين، وعلى السنة المختصين بالامور الاقتصادية والمالية مع كلمة أخرى هي الشفافية، ويقولها ويرددها بسطاء الناس فيما بينهم.

الغالب الاعم في تداول الكلمة يقتصر على معنى واحد منها، وهو ما يتعلق بامور المال والتعاملات النقدية، التي تتم بين الاخرين، أو ما يتيحه استخدام المناصب والسلطة من صور الاستفادة من المال العام.

لكن النزاهة في حقيقة وضعها ودلالتها اللغوية لا تقتصر على تلك التعاملات المالية فقط، انها تغوص بعيدا في تشكيل عالم كبير من القيم والاخلاقيات، وتمتد الى افاق أوسع من دلالاتها الضيقة التي درج الناس عليها.

النزاهة في ابعادها المترامية الأطراف، تكاد تكون هي (الحياة) نفسها، او هي كل الحياة، كما توصل الى ذلك، احد الضباط الأمريكيين وهو في الاسر يتوقع إعدامه في أي لحظة، وكتب جملته الأخيرة في رسالته الى زوجته أن (الحياة هي النزاهة).

وتكلم عنها شكسبير في مسرحية هملت، عندما تقول إحدى الشخصيات (إذا كنا صادقين مع أنفسنا لا نستطيع أن نكون مخادعين مع الآخرين).

في اللغة العربية، تذهب الكلمة الى اشتقاقات عديدة، فهي (البعد عن السوء وترك الشبهات – البعد عن المكروه والقبيح – العدل في القضاء – العفّة – الشرف – الاستقامة – سمو الاخلاق – عدم التحيز – الزينة والابتعاد عن الصون والشين).

في معناها الاصطلاحي، حددت (النزاهة) باكتساب المال من غير مهانة ولا ظلم الغير، وانفاق هذا المال في المصارف الحميدة. كما يذهب الجرجاني في كتاب (التعريفات).

هذا التوسع في الدلالات يزخر به القران الكريم، في اكثر من موضع تحضر فيه المرادفات لكلمة (النزاهة) التي لم ترد في اية من اياته.

على سبيل المثال، كلمة (الأمانة) التي جعلها بن فارس في كتابه (مقاييس اللغة) اصل من اثنين لكلمة (الامن) التي هي ضد الخوف، وهي ضد الخيانة، وتعني (سكون القلب). ومن الامن والأمانة هناك الايمان، وهي ترتبط بوشيجة قوية، فالايمان يفيد الطمأنينة والسكينة، والأمانة هي التصديق لمن تأمنه وتطمئن اليه، ولكي يتحقق الامن يجب عليك أن تصدق بمن يؤمنك على نفسه وأهله وممتلكاته. ويمكن تتبع الكثير من تلك المرادفات التي توازي كلمة (النزاهة) وتسير مرافقة لها، مثل: (الرشد – الصدق – العدل – القسط – النصح) وغيرها الكثير للمتدبر والمتأمل.

الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) لامس تلك المعاني واكثر منها وهو يكتب عن النزاهة كمفهوم أخلاقي لا يقتصر على جانب محدد، ظاهر للعيان، مرئي يراه الاخرون، بل هو مخفي ومضمر، داخل النفس الإنسانية، لا يظهر للآخرين الا عبر جوارحه، (فالنزاهة بالمعنى الأخلاقي تعني: الا يفعل الانسان العمل القبيح، قلبا، وعينا، واذنا، وانفا، وفما، بل كل جوارحه وجوانحه لابد أن تكون نزيهة من فعل القبيح).

ولا يقتصر الامر في هذا المدى على الفعل، بل انه يمتد الى ما يمكن ان يستبطن الفعل ويجعله خاطرة في الذهن، او دبيبا في النفس، ويكون (على الانسان الا يرتكب الحرام بل عليه الا يفكر بالمنكر، لان الله عالم ومحيط به).

نزاهة (اللامفكر) فيه، هي (النزاهة الروحية) التي تنعكس على جوارح الانسان، وتجعل التفكير مطابقا للسلوك، وهي (الطريق لجذب الناس).

النزاهة الروحية، وهي التي تمثل الخط العمودي بين الانسان وربه، وتقود الى مآلات أخروية ناجحة، يجب ان ترتسم أيضا في خطوط افقية بين الانسان والاخرين، تقود الى مآلات ناجحة متحققة دنيويا، (نزاهة الانسان مع الله ليست هي المعيار فقط، بل لابد وأن تكون في المجتمع فانها معيار اخر أيضا، وبهذا يكون للإنسان موضع تقدير عند أولياء الله المعصومين (عليهم السلام) وعند الناس، لان الابتعاد عن الشيء القبيح هو المطلوب عند الله وبالتالي هو فوز دنيوي واخروي)، وهي هنا أيضا، يمكن ان تكون تجارة رابحة، طالما هي الأسلوب الصحيح في الحياة، التي لا يتم كل حراك فيها الا من خلال التفاعل بين الانسان والاخرين، وهي تجارة أرباحها لا تنضب أو تنقضي، انها متواصلة، تحرز محبة الناس وصداقتهم، لان الناس دأبت على محبة وتقييم الانسان النزيه في كل شيء يفعله، ويقوله، (ان انجذاب الناس الى شخص، واكنانهم المحبة والصداقة له يأتي بسبب النزاهة، فكما ان الانسان لا يصدق أحدا الا من احرز انه منزه عن الكذب، كذلك الناس لا يسلمون امورهم واموالهم وعواطفهم لكل احد، الا لمن تنزه عن القبائح وكان لائقا بذلك). كما يعبر عن ذلك الامام الشيرازي (قدس سره).

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 2/نيسان/2014 - 30/جمادي الأولى/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م